أهلا وسهلا بكم في ملتقى الغرباء يشرفنا انضمامكم الينا..

e hënë, 25 qershor 2007

Tunisnews_Arabic 24/06/2007









السنة الثامنة، العدد 2588 بتاريخ 24 جوان 2007

لا للصمت عن نفي عبد الله الزواري
برقية مساندة لمعلمي ونقابيي القصرين وتحية إكبار للمناضل خالد الدلهومي وإلى كل النقابيين المصابين
حزب العمال الشيوعي التونسي: بيــان حول الوضع على الساحة الفلسطينية
بيان :حول تطورات الوضع الفلسطيني
الحوار.نت: تقرير مختصر عن إجتماع هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بتونس المنعقد بباريس
إسلام أون لاين: تونس.. مصير عائدين من جوانتانامو يقلق الحقوقيين
الجزيرة.نت: المعارض التونسي العربي القاسمي: معارضة الداخل واجهة أمام الرأي العالمي
خــالد الطراولي: رسالة إلـى قرصان
عبد الله الـزواري:حصـاد الأسبـوع
لقاء صحفي مع الأستاذ محمد النوري
الأستاذة إيمان الطريقي: مع الأستاذ محمد النوري في جولته الانتخابية لعمادة المحامين

فتحي الشامخي: مساحة تونس: ليت شعري ما الصحيح ؟
د.محمد الهاشمي الحامدي:أسئلة أولية إلى إخوتي اللائكيين في تونس
الجزائر نيوز:حوار مع مدير صحيفة الوسط التونسية مرسل الكسيبي
مرسل الكسيبي: تونس : ماذا يعني أن تسكت الدولة على ملف عبدة الشياطين ؟!
محمد العروسي: الرسائل المفتوحة الموجهة إلى سيادة رئيس الدولة لها مبرراتها و أسبابها
الموقف: من يحمي الموظف ؟
العميد السابق للمحامين الاستاذ منصور الشفي «للشعب»: هذه أسباب توتر العلاقة بين السلطة والمحامين
الشعب: للوفاء والذكرى:أحمد التليلي في الذكرى 40 لوفاته:المناضل الذي لن يُنسى ابدا...
د . الطاهر الهمّامي: هل توجد حداثة بلا هويّة ؟ وهل الهويّة مُعطى جامد؟
زهير الشرفي: إسرائيل وكونداليزة في الموعد كالمعتاد؟!
محمد بن نصر:حريتا التفكير والتعبير ..والهشاشة الفكرية
د. رجاء بن سلامة: فرويد والعرب : المتّهم الذي لن تثبت براءته
توفيق المديني :هل ينقذ "بنك الجنوب" أمريكا اللاتينية؟
أكرم البني: دفاعاً عن الخيار الديموقراطي
عمر مسقاوي: ولادة النهضة في فكر مالك بن نبي: الأخلاق والجمال والمنطق العملي وتقنيات الانتاج
قصي الحسين: بن نبي في «مجالس دمشق»: زبدة أفكاره لشبابها المتنوّر

بسم الله الرحمان الرحيم
و الصلاة و السلام على أفضل المرسلين

الرسالة رقم 251
الرسائل المفتوحة الموجهة إلى سيادة رئيس الدولة لها مبرراتها و أسبابها
محمد العروسي الهاني مناضل دستوري
تونس في 19/06/2007
نحمد الله تعالى على التوفيق و العون و الرعاية الالهية و الهداية إلى طريق الخير . فقد كنت طيلة سنتي 2003 و 2004 في حيرة كبيرة بعد غلق أبواب الصحافة المحلية و غلق أبواب الحوار و قلت في نفسي ربي يفرجها و يفتح الأبواب أمامنا لمواصلة مشوار الجهاد و النضال و الأصداع بالكلمة و الرأي الحر و التعبير الهادف الذي أصبح ملازما لحياتنا اليومية و جرى في عروقنا مجرى الدم في الجسم بفضل العقيدة و الإيمان و نور الإسلام و الهداية و التوفيق من الله تعالى و قد فتحنا عيوننا على فعل الخير و البناء و كان لحزبنا العتيد الفضل في دعم هذه الثوابت و الحمد لله كانت حياتنا مليئة بالسعادة و قلوبنا مليئة بحب الأخرين و مساعدتهم طبقا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أوصانا بمساعدة بعضنا و قال من فرج كربة على أخيه فرج الله عليه كربتة يوم القيامة .و قائدنا و زعيمنا الحبيب بورقيبة نذر حياته لخدمة شعبه و جعل حزبه حزب التحرير، حزب العمل و جسرفعل الخير و خدمة الشعب و التضحية من أجله تلك الثوابت الخالدة التي بقت راسخة في اذهاننا منذ أكثر من نصف قرن و كل المناضلين القدامى تربوا على هذه الروح العالية للتطوع و التفاني و ان الزعيم الطيب المهيري جعل مسكنه مأوى للمناضلين و الوطنيين للإصغاء إليهم و قضاء حاجتهم و هو وزير الداخلية ، و الزعيم المنجي سليم رحمه الله كان في خدمة الشعب متواضعا مع إخوانه و كثيرا من الزعماء تربوا في المدرسة الوطنية التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة. و للتاريخ أذكر مناضل من جهة الوطن القبلي يدعى جبريل جبريل والد السيد نوفل الزيادي الذي أصبح كاتبا عاما لاتحاد الطلبة . هذا المناضل الكبير كان يتردد على العاصمة يوميا و معه عدد من المناضلين لمساعدتهم و قضاء حاجتهم و هو يشعر بالسعادة و هو معروف عند كل المسؤولين الكبار في الحزب و الحكومة و يقدرونه و يحبونه حبا كبيرا لأنه يعمل لفائدة أخوانه و فعلا في زيارة عمل لبلدته تاكلسه عام 1961 من طرف السيد حسان بلخوجة وزير الفلاحة أنذاك . قال للمناضل جبريل هذه سويسرا لا تاكلسه أبار عميقة و فلاحة عصرية و محركات تدوي أجابه جبريل تلك هي سعادتي .هكذا كان القدامى يفكرون و يعملون و يسعون و يجدون الأذان الصاغية و الاحترام و التقدير ...، ونرجوا اليوم بعد 53 سنة من النضال مزيد تفتح القلوب و العقول للمواطنين الذين يرغبون في إجراء مقابلات رسمية مع السادة أعضاء الحكومة و السادة كتاب الدولة و السادة الولاة . و غيرهم و إذا اعتبرنا أن عدد الوزراء و كتاب الدولة يفوق اليوم 45 مسؤولا . و إذا بادر كل مسؤول بتخصيص يوم في الأسبوع لمقابلة المواطنين لمدة 5 ساعات . أعتقد أن كل مسؤول يصغي إلى 10 مواطنين بمعدل نصف ساعة لكل مواطن يفرغ مزودوا و يلقى الإجابة و الابتسامة و العناية و نصف المواطنين حوارهم عام و عندهم زاد و معلومات و معطيات لا تجدها في التقارير الإدارية و الأمنية و هي معطيات فرشكة طاهرة صادقة و نقية ... تخدم مصالحهم و مصلحة البلاد و العباد و الوطن و نصفها يخص المشاغل اليومية و هموم الناس و طموحاتهم و حاجتهم و هم أصحاب حق . لماذا لم نفتح الأبواب و المكاتب لهم لمقابلة السيد الوزير و السيد كاتب الدولة و السيد الوالي و السيد المدير العام الذي يعيش في برجه العالي . و الأبواب موصدة حتى في شركات الخدمات العامة و النقل و الشؤون الاجتماعية و الشؤون الاقتصادية و حتى الشؤون الدينية ... ، لا بد من فتح الأبواب الموصدة و المغلقة في وجه المواطن التونسي و حان الوقت للمساعدة . و كما يقال الرئيس ليس شمس تضيئ على المشرق و المغرب . و الرئيس له مساعدين و وزراء و كتاب دولة و ولاة و مسؤولين في الجهات و رؤوساء بلديات . أين دورهم يا ترى تجد شخصا مسؤولا في أعلى المناصب لمساعدة الوزير يعدك وعدا صريحا بتحقيق طلبك . ولكن تمر الأشهر و الملف مازال على مكتبه ماكثا . هل كل شيئ يجب إعلام رئيس الدولة به حتى يعالج معالجة سريعة و نافذة و بسرعة . أعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد الوعي الوطني و إدراك الأمانة و مراعاة وجه الله و احترام الثقة التي وضعها رئيس الدولة بن علي في كل مسؤول حتى يرعى مصالح الشعب و يعمل على تنفيذ تعليمات رمز البلاد و يستجيب لبلاده دوما بالإنصات للشعب و خلجاته و همومه نعود للحديث عن حيرتي عام 2003 عندما أغلقت أبواب الصحافة التي من المفروض تحمل رسالة إعلامية وطنية هامة لكن فتح الله علينا بباب أوسع موقع تونس نيوز الذي كان رحمة و منبر إعلامي هام كسر و حطم الحواجز و رفع الحرج . و اليوم و الحمد لله 250 مقال ينشر بكل ديمقراطية و شفافية و لا مقص حاد و لا رقابة ذاتية في مستوى النشر. أما الرقابة الأخرى فهي تلاحق المقالات حتى في فراش النوم . وربما مراقب الانترنات مرتبه يفوق الخيال أو يفوق امتيازات الوزير الأول في بعض الدول .لماذا...؟
و أشرت في عنوان المقال الرسائل المفتوحة الموجهة لسيادة الرئيس لها مبرراتها و أسبابها خاصة مشاغل المواطنين التي أشرت إليها في الرسالة المفتوحة المؤرخة يوم 24 /05/2007 لسيادة الرئيس المحترم.
و قلت الرسائل أصبحت لا تصل وهناك حواجز . ليس أدري لماذا...، بينما نعرف الحس المرهف لرئيسنا وعطفه و قلبه الرحيم على الشعب . و أشرت في الرسالة المفتوحة إلى الرسائل التي كانت تصل إلى مكتب سيادة الرئيس قبل عام 2000 ، و نتائجها الفاعلة و الواضحة و اليوم من 2001 كتبت 13 رسالة شخصية على طريق الفاكس و البريد لرئيس الدولة و لم المس نتيجة . و عدد 15 رسالة مفتوحة في ظرف عامين 2005 إلى 2007 على موقع الأنترنات تونس نيوز ، لماذا إخفاء الرسائل على رئيسنا الذي جربناه صاحب قلب واسع و حس مرهف و أذكر أن 87 أسرة بمنطقة الحجارة لحد الآن بدون إيصال الماء لمنازلهم و الماء وصل عام 2000 بإذن من سيادة الرئيس . و لماذا الطريق معطبة منذ عامين التي انجزها صندوق 26/26 ، و شبان بالإجازة و عاطلين عن العمل رغم وعد وزارة التربية و التكوين في 2 أفريل 2007 و المدرسة الإعدادية طالبنا بها و لكن ليس هناك رد و لا إيجابة و لا تحرك من مسؤول وطني او جهوي فأين المسؤولين الذين وضع فيهم سيادة الرئيس الثقة لخدمة الشعب أين السادة الوزراء ، أين السادة الولاة ، أين السادة المديرين العامين لشركة المياه والتجهيز و إدارة التعليم بصفاقس هل لهم حس مرهف مثل حس السيد الرئيس ...
أم المثل يقول مثل النعامة تضع رأسها في التراب و لا يهمها ...، بماذا تفسرون 26 رسالة مفتوحة للسادة الوزراء عبر هذا الموقع الإعلامي لم يقع الرد عليها و الاهتمام بها بماذا تفسرون رسائل عديدة وصلت إلى الولاية و لم يقع الرد عليها بماذا تفسرون مقابلات تمت مع مسؤولين في الولاية حول مشاغل منطقة الحجارة ولم تأتي بنتيجة بل إن أحدهم أراد استعراض قوته لكن وجد مناضلا صامدا لا يخاف سياسة الترهيب و الترغيب سامح الله هذا المسؤول الذي غادر الجهة و المسؤولية و بدون تعليق .
بماذا تفسرون عدد 25 بالمائة من سكان المنطقة بدون ماء منذ عام 2000 و أصبحت أتحرج من تكرار الطلبات و طرح المشاغل و لو بلغت إلى مكتب سيادة الرئيس لتحققت في ربع ساعة لهذه الأسباب و المبررات التي جعلتني أراسل باستمرار رئيسنا عسى أن تظفر رسالة بالوصول بين يديه و إن شاء الله نظفر بابن حلال يخاف الله ويحب الوطن و يحترم الرئيس ان يبلغ رئيسنا هذه الرسالة
أو بنت حلال لها كلمتها المسموعة وتحب الشعب عسى تبلغ مشاغلنا بأمانة و لنا في التاريخ كم من امرأة وطنية لعبت دور هام و مفيد و ساعدت الكثير على ابلاغ المشاغل و كما يقولون إن وراء كل رجل عظيم إمرأة وفية و هذا ما قلته في الرسالة المؤرخة يوم24 ماي 2007 رقم 237 ليس بعد هذا التوضيح توضيح أخر و التاريخ لا يرحم و الرسائل 16 سيذكرها التاريخ جيل بعد جيل و سيكون لها تأثيرها الايجابي .
قال الله تعال: إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أنة يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا صدق اله العظيم.

من يحمي الموظف ؟

عبد الرزاق داعي - قفصة

تعددت أحداث التعنيف المادّي والّلفظي المسلّط على الموظفين أثناء تأديتهم لعملهم في المدّة القليلة الماضية:

** ففي المدرسة الأساسية عمر بن سليمان بحي المولّى قفصة بينما كان الجو هادئا والدروس تسير كعادتها دخلت امرأة هائجة مائجة متجهة نحو مكتب مدير المدرسة مطالبة إياه بالاقتصاص حالا ومعاقبة التلميذ الذي اعتدى بالضرب على ابنها ، فحاول المدير تهدئتها واعدا إياها أنه سيبحث في هذا الموضوع لاحقا حفاظا على جو سير الدروس وهدوء المدرسة فما هاله الا أن رمته بوابل من الشتائم والسّب والعار وعند هذا الحدّ استنجد المدير هاتفيا بالأمن من اجل التدخل لحل هذه المشكلة ، لكنه تعذر عليهم ذلك لعدم توفر سيارات الإدارة وقتها بسبب تواجدهم في مراكز امتحانات الباكالوريا حسب ردّهم .

وفي تلك الأثناء فشّت تلك السيدة غليلها وغادرت المدرسة وبعد دقائق أرست سيارة تابعة للأمن الوطني أمام المدرسة ونزل منها عوني أمن فاطمئن السيد المدير واعتبر ذلك استجابة لمطلبه لكن المفاجأة كانت أكبر عندما فهم أن أحد الأعوان هو ولي التلميذ ً المُعنّف ً وأنه جاء بنفس أسلوب زوجته مهددا متوعدا، فتعقدت الأمور واستعصت المشكلة مما دعا كل المدرسين المتواجدين بالمدرسة مغادرة قاعاتهم لمؤازرة ومساندة زميلهم المدير ووضع حدّ لمثل هذه التجاوزات.

** وفي حادثة مماثلة في المستشفى الجهوي بقفصة تعرض السيد محمد الهنشيري المسؤول عن قسم الأشعة للتعنيف من طرف مواطن وذلك أثناء أداءه لواجبه المهني مما سبب له في غيبوبة ألزمته مراقبة طبية في المستشفى وراحة لمدة شهر وعند إطلاق سراح المُعتدي شن أعوان إطارات طبية وشبه طبية إضراب عن العمل لمدة ساعة في اليوم الأول وساعتين في اليوم الثاني مساندة لزميلهم واحتجاج على مثل هذه الممارسات .

** وكل هذا يجرنا للحديث عن ما تعرض له الأستاذ الذي حاول منع تلميذ من الغش أثناء امتحانات الباكالوريا الأخيرة في مدينة سيدي بوزيد فكان رد فعل ولي هذا التلميذ حين أعلمه ابنه بما حدث إلا أن يذهب للأستاذ في مقهى وسط المدينة ليشبعه ضربا وشتما لأنه تدخل فيما لا يعنيه وحرم الابن من الارتقاء إلى صفوف الجامعة التونسية خاصة وأن الأب مسؤول في الحزب الحاكم وبالتحديد عضو اللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي فهل يعقل هذا ؟

(المصدر: صحيفة "الموقف" (أسبوعية معارضة – تونس)، العدد 411 بتاريخ 22 جوان 2007)

رابط العدد 411: http://www.pdp.org.tn/mawqif/411.pdf


العميد السابق للمحامين الاستاذ منصور الشفي «للشعب»:

هذه أسباب توتر العلاقة بين السلطة والمحامين

اجرى الحوار الحبيب الشابي

لا شك ان تجربة العميد منصور الشفي داخل هياكل المهنة وخاصة على صعيد العمادة التي تحمل مسؤولياتها على مدار أربع نيابات، قد تركت اثارا عميقة في تاريخها المعاصر، بحيث غدا الرجل أحد مراجع المحاماة تسييرا وإدارة ومواقف كما ارتبطت مسيرته المهنية بدفاعه عن قضايا الرأي والحريات التي اتت في مقدمتها الازمات النقابية وما تبعها من محاكمات ولان أزمة المحاماة لا تزال تلقي بظلالها عبر الفترات الاخيرة فقد قرر العميد الترشح مرة أخرى لمنصب العمادة.

الشعب التقته في حوار مثير حول تشخيص حالة الأزمة وتقديم التصورات البديلة فكان هذا الحوار.

الأكيد أن من دوافع ترشحكم مجددا لعمادة المحامين، اطلاعكم الواسع على راهن المهنة فكيف تشخصونه؟

إن المحاماة منذ تسع سنوات، بدأت تمر بأزمة تتفاقم يوما بعد يوم وتتمثل في المظهر التالي:

إن المحامين لا يتمتعون بتغطية اجتماعية كافية، فإنه إن كان للمحامين صندوق تقاعد إلا أن هذا الصندوق قد أصبح مهددا في موارده المتأتية من معلوم تانبر المحاماة.

وقد يصبح في يوم من الايام لا يفي بالحاجة حيث أن دخل هذا التانبر حسب معدلات السنوات الاخيرة لم يتجاوز المليارين بحيث أن هذا المقدار يكفي فقط عدد المتقاعدين الآن وأرامل المحامين.

أما بالنسبة لمن يرغب في التقاعد، فإن هذا الصندوق لا يلبي إلا مطالب قليلة قد لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.

فلو أن عدد المتقاعدين قد زاد نوعا ما فان هذا الصندوق لن يلبي هذه الرغبة وهذا قد يخلق شيئا من الخوف لدى المتقاعدين من انهم مهددون في استمرارية منحة للمتقاعدين والمقبلين على التقاعد يجدون شبه صدّ من الهيئات التي تحاول تأخير تقديم مطالبهم للتقاعد.

ولذلك أصبح التفكير متجها إما لتنمية موارد هذا الصندوق أو الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي.

ومنذ تسع سنوات بدأت المفاوضات في عمادة الاستاذ بوراوي والاستاذ الصيد والاستاذين بن موسى مع صندوق الضمان الاجتماعي لايجاد صيغة لانخراط المحامين بالصندوق وكانت السلطة تميل الى هذا الحل بينما نجد بعض المحامين يرون في الابقاء على صندوقهم الخاص ضمانة لاستقلاليتهم ولا شك أن هذه الحجة غير مقبولة لان الانخراط في صندوق الضمان الاجتماعي مثلما حصل بالنسبة للاطباء والصيادلة ولكن المشكلة تبقى هي الحلّ الافضل.

وحسب المفاوضات كان موقف الصندوق واضحا «أنه لا يستطيع أن يقبل إلا انخراط المحامين المباشرين الذين لم يبلغ سنهم 55 سنة، أما الفئة التي تفوق هذا السن فئة المتقاعدين وفئة الأرامل، فإن الصندوق رأى أنه من الناحية القانونية الصرف لا يمكن قبولهم نظرا لان القانون لا يمكن المنخرط من منحة إلا إذا ما مرت على فترة انخراطه عشر سنوات وقال الصندوق أنه لو افترضنا ان المحامين يتقاعدون في سن 65 واحتسبنا 10 سنوات قبلها، فإن السن الأقصى لقبول المحامين هو 55 سنة.

وهنا ظهرت صعوبة الانخراط بالصندوق، إذا استثنينا الفئات الثلاث المذكورة، فإنه لا يمكن لأي هيئة كانت أن تقبل هؤلاء في منحة تقاعد تؤمن لهم حياة كريمة ولا تعرضهم للجوع والخصاصة.

هذه المسألة أوليتها أهمية قصوى في برنامجي الانتخابي، وعندما انتقلت الى المدن الكبرى وتونس لعرض هذا البرنامج شرحت لزملائي وجهة نظري المتمثلة فيما يلي:

أن الحل الآن هو بيد السلطة فهي التي يمكن لها وحدها أن تمكنا من الانخراط بالصندوق ولو لمن فات سنه 55 سنة أو لأرملة أو لمتقاعد. وطالبت بأن يقع استثناء هذه الفئة وتتدخل السلطة لمنحها جراية التقاعد، وهذا الاستثناء قد وقع سابقا إذ تدخل السيد الرئيس منذ سنوات وعمّم منحة التقاعد على الكتّاب والفنانين والمبدعين مهما كانت سنهم. فلا شيء يمنع من تعميم هذا الامر على الفئات سالفة الذكر من المحامين خاصة أنه تبين من المفاوضات التي جرت مع الصندوق ان المحامين سالفي الذكر لهم امكانية أن تشتري لهم هيئة المحامين عدة سنوات للتقاعد وكذلك الأمر بالنسبة للمتقاعدين والأرامل، ولكن تكلفة ذلك تتراوح بين 80 مليارا و150 مليارا وهو أمر تعجز عنه هيئة المحامين بينما لو تدخلت السلطة فإن هذا الاشكال سوف يزول لان الصندوق لا يكون مطالبا بدفع 150مليارا بل يكون مطالبا بدفع جريات النواة الاولى التي لا تتجاوز 3 مليارات في السنة.

واذا قبلت السلطة ذلك فإن الذين سينخرطون بالصندوق وعددهم الآن 5 آلاف محامي سيدفعون انخراطهم السنوي (ربما باستثناء المتمرنين ) أي أن مقدار 3 مليارات التي سيدفعها الصندوق هي التي سيدفعها المحامون في السنة الاولى.

وأرى أن هذا الحل هو الأمثل وهو بيد السلطة، وإذا ما وقع انتخابي فإني سأعمل علي تنفيذ ذلك، لان مصلحة المحامين تمكن في الانخراط بالصندوق اما اذا لم تتوفر هذه الصيغة وأصبح المحامون عاجزين عن الانخراط فإنه لم يبق لنا غير حل واحد وهو صندوق تقاعد المحامين رغم ضعف موارده ولا بد من توفير موارد أخرى مثل فرض معلوم سنوي أو الترفيع في معلوم التانبر بحيث تقع مراجعته أو بارجاع معلوم المرافعة الذي رفع بحجة ان القضاء في تونس هو قضاء مجاني . لكن في الواقع، فان القضاء في العالم لا يمكن ان يكون مجانيا 100 وهو ما يدل عليه الحال في تونس .

هذا الموضوع استغرق مني جانبا في عرض البرنامج ، لانه الموضوع الحيوي الذي يتعلق به المحامون وثانيا لان بقاءهم بدون حل خلال السنوات الاخيرة، قد ساهم في تعميق الأزمة داخل المحاماة وربما في تأزيم العلاقة بين المحاماة والسلطة.

وأعتقد ان الفترة المقبلة هي محورية إذا لم نجد حلاّ لهذه المشاغل وان يتم السعي الى إرساء هذه الحلول بواسطة الحوار الذي تخلص فيه النوايا سواء من طرف المحامين المنتمين للسلطة أو من قبل المحامين الذين لا ينتمون اليها وبكل صدق عند عرض هذا البرنامج وجدت تفهما كاملا من قبل المحامين لحل هذه الأزمة الدائمة فالدولة يمكن أن تفي بها.

واني استغل تصريحي بجريدتكم لوضع هذه المشاكل في مستوى عرض على الرأي العام، لنقول ان المحامين ليسوا في حاجة الى إبقاء هذه المشاكل قائمة ولا يمكن ان تكون مصدر تعفن بين السلطة والمحاماة خاصة وانا شخصيا عند ما نقدمت للترشح، فذلك ايمانا مني (وهذا أقمت عليه الدليل في المرات السابقة التي كنت فيها عميدا) لا بد من تصحيح الوضع، لأن المحامين هم أكثر الفئات تسيسا، وهم ايضا قاعدة الفكر السياسي في العالم أجمع سواء بالنسبة للأفراد التي وصلت الى السلطة أو للافراد في المعارضة، ولا أدل على ذلك مؤخرا وصول ساركوزي المحامي الى السلطة وقبله بيل كلينتون الى الرئاسة في أمريكا.

* وكيف تنظرون في تأثير العامل السياسي في العامل المهني داخل قطاع المحاماة؟

أنا أعتقد أن العمل السياسي بالنسبة للمحامي هو حق من حقوقه ، اما بالنسبة لمجلس الهيئة، فإن قناعتي يجب ان تبقى مستقلة عن جميع التيارات السياسية وليتعامل معها بنفس المعايير لكي لايطغى تيار سياسي على آخر وحتى لا يصبح مجلس الهيئة نهبا للتيار السياسي الذي يريد أن يسيطر عليه.

وهذا ما تحقق في الواقع في العالم المتحضر مثل فرنسا أو ايطاليا أذ ليس هناك مجالس هيئات مسيسة ، بل هي هيئات مهنية خالصة مثل الصيادلة والاطباء المعتمدين ودورها هو مراعاة مصلحة المهنة وتحقيق مكاسب لها.

* لكن ألا ترون أن هذا الأمر ينسحب على واقع الهيئات والعمادات والنقابات في العالم العربي بأسره؟

اريد أن اتحدث حديث الصراحة عند ما كنت عميدا سابقا وزرت فيها المغرب كنت أدهش لشيء وهو ان هيئات المحامين مقسمة بين أحزاب كبرى تتعاظم فيها قيادات الاحزاب قبل تفاهم المحامين، فإذا كان الحزب قد حصل على نقابة دار البيضاء، فإن حزب الاستقلال تكون له قيادة هيئة الرباط وخلال السنوات الأخيرة أصبحت كل الهيئات مستقلة عن كل الاحزاب أعطتها قوة خدمت بها مصلحة المحاماة والعناية بمصالح منخرطيها لا مصلحة الاحزاب والاطراف السياسية .

* ألا تعتقدون ان مفهوم الاستقلالية بدوره قد اصبح مفهوما مخاتلا وماكرا؟

بالنسبة لتونس أصبح في السنوات الاخيرة هذا المفهوم ضبابيا لان هناك فكرة خاطئة قد تسربت مفادها ان المحامي المستقبل هو من كان مستقلا عن السلطة أما غيره من المنتمين للاحزاب فيعتبر مستقلا لكن انتماءه الحزبي قد يجعله متعصبا لحزبه ويسعى لان تصبح المحاماة في تياره السياسي وهو ما نأت عليه تونس في الماضي.

فالعميد الشاذلي الخلادي هذا المنتمي حزبيا بل كان من قيادة الحزب القديم لكن لما اصبح عميدا كان عميدا مستقلا بعدها فرضت الدولة على المحاماة الاستاذ عبد الرحمان عبد النبى منصبا، وبالتالي اعتبر المحاماة يجب أن يباشرها إلا من كان وطنيا وفي نظره فأن الوطنية تتجسد في الحزب الجديد.

وهذا ما خلق جفوة بينه وبين المحامين واضطرت الدولة الى عزله عن المحامين وانتخاب البحري قيقة الذي كان يتمتع بالكثير من الاستقلالية خاصة انه كان يؤمن بأن عمل الهيئة هو مهني قبل كل شيء.

* بهذه المعايير، هل ان المراحل السابقة قد برهنت على استقلالية العمداء؟

كل العمداء الذين وصلوا الى هيئة المحامين، كانوا متشبثين بهذه الأفكار لكن هذا التصور لم يبق هو المسيطر خلال المدة الاخيرة وأنا لست بصدد تقويم أداء زملائي لان ذلك من خصائص الجلسات العامة، لكن النتيجة الملموسة كذلك ان شرخا بين المحامين قد حصل في جلساتهم العامة مبعثة الخلاف السياسي فقط ورأينا جلسات عامة يصل فيها المدى الى استعمال العنف بين المحامين.

ولذلك، في نظري وجب السعي الى ان يوجد خطاب تجميعي موحد لا يمكن ان يكون إلا على اساس مهني فقط وجود التضامن بين أهل المهنة، وان هذا الخطاب الذي يجمع بين القواسم المشتركة بين المحامين، هو وحده الذي يمكن ان يحلّ ازمة المحاماة وعلى هذا الاساس تقدمت الى العمادة على أن يسود التعقل بين الأطراف المختلفة للمحامين المسيسين حتى ننظر فقط الى المصلحة العليا للمحاماة.

* لكن شعور المحامين «بالغبن» في ظل غياب صيغة للتغطية الاجتماعية لا تقل عن شعورهم بالخوف من مستقبل التقاعد في قطاعهم ؟

المحامون يشعرون بانعدام تغطية اجتماعية ثانية ، فهم لا يتمتعون بتأمين علي المرض، فقد جربنا سابقا عدة عقود مع شركات التأمين والتي لم يكتب لها الاستمرار والآن، فقد عرضت أن الحل يكمن بالانخراط في الصندوق الوطني للتأمين على المرض لكن بالنسبة للمحامين لا ليمكن الحصول عليه ماديا وموضوعيا لانه مرتبط بوجوب تغيير نصوص قانونية ، لان التأمين بالصندوق الوطني (C N A M) لا يمكن إلا بالنسبة للمضمونين إجتماعيا،وبما أن المحامين غير منخرطين فبالتالي غير مضمونين إجتماعيا ولا يمكن لهم الانخراط بالصندوق. لكن يمكن في حالتين :

1) أن يصدر تنص خاص عن السلطة يمكن المحامين من الانخراط بالصندوق الوطني للتأمين على المرض.

2) أن يصبح المحامون منخرطون بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعية وبالتالي يصبحون آليا مضمونين اجتماعيا.

وهذا المطلب ملح، لان بعض الزملاء الذين تعرضو الى حالات مرضية عويصة ومزمنة وجدوا أنفسهم أمام صدقات، وهو أمر لا يليق بمن تعرض الى هذا النوع من الأمراض.

واعتقد أن هذا لأمر لن يكلف السلطة أمرا شاقا أو تكلفة مالية كبيرة ، بل الموضوع يتعلق باتخاذ قرار تشريعي فقط.

* من أسباب الخلاف القائم بين وزارة العدل والهيئة الوطنية للمحامين مسألة المعهد الأعلى للمحاماة، كيف تنظرون الى هذا المشروع ؟

انه الموضوع الثاني العام فهو سبب من أسباب الخلاف الواقع بين الهيئة الحالية ووزارة العدل ويتعلق ببعث المعهد الأعلى للمحاماة.

وأمام ضغط المقبلين على مهنة المحاماة والذي أصبح في ظرف سنوات وجيزة يعد بالآلاف ، كانت النتيجة الحتمية لذلك هو اغراق المحاماة وبالتالي تدني المستوى المادي للمحامين، ولذلك كان التفكير واجبا في الحد من هذه الظاهرة ومنذ سنوات طويلة طالب المحامون بما اسموه بتوحيد المدخل، أي أن تصبح شهادة الكفاءة هي المدخل الوحيد للانتماء الى المهنة وشهادة الكفاءة يُعين فيها سنويا عدد الذين يمكن لهم اجتياز مناظرة الدخول الى المحاماة، لكن حصل أمر أحسن من ذلك وهو ان هيئة المحامين بقيادة الاستاذ بوراوي وبعث المعهد الأعلى للمحاماة هي طريقة تتم بها مراقبة عدد الوافدين آي ما يمكن استيعابهم فقط سنويا في المهنة، والى جانب ذلك تكون مهمة هذا المعهد تكوين المقبلين لمدة سنتين كاملتين بعد الحصول على الإجازة أو شهادة التعمق، هو ما من شأنه أن يحقق نوعية من المحامين تستطيع ان تتكيف مع الظروف الدولية الجديدة وتشابك المصالح الدولية التي يجب أن يكون للمحامي مكانة خاصة في عهد الشراكة التونسية الاوروبية وهذا المعهد مع وجود الارادة الصادقة يستطيع أن يكوّن محامين يستجيبون لهذه المواصفات ويقدرون على المنافسة عالميا.

كذلك، في اعتقادي كان على المحامين أن يعتبروا حصول هذا الأمر بمثابة مكسب من المكاسب التي وقعت فيها الاستجابة لطلب استمر عدة سنوات، لكن انا شخصيا فوجئت باندلاع خلاف بين الهيئة الوطنية ووزارة العدل حول صنف المعهد.

* السيد العميد، على ما اعلم أن وجه الخلاف تعلق بطرق التسيير بنسبة التمثيلية وليس برفض المشروع من أساسه؟

فيما يتعلق بالتسيير فالهيئة الوطنية طالبت بأن يكون لها هذا الجانب، واستمر هذا الامر طويلا الى أن صدر الامر التشريعي ببعث هذا المعهد وذلك في شهر ماي 2006 وتبين منه أن التسيير هو في واقع الامر لن يكون لوزارة العدل أو لوزارة التعليم العالي ، بل أن هذا التسيير للمجلس العلمي للمعهد.

ثم اضاف وزير العدل في احد تصريحاته بأنه يلتزم بأن يكون المدير العام للمعهد هو محام مرسم لدى التعقيب وهذا يعني ان ذلك سيتم بالتفاهم بين الهيئة الوطنية بين وزارة العدل وانا عند ما عرضت برنامجي، اعتبرت ذلك كافيا لتصبح التمثيلية داخل هذا المجلس العلمي للمحامين فالنص القانوني الذي اسس المعهد اقتضى ان المجلس العلمي يتركب من ثلاثة أطراف 4 من محامين و4 من الاساتذة ، 4 من القضاة واضاف النص بالنسبة للمحامين، اثنان منهم يتم تعيينهما من قبل مجلس الهيئة الوطنية للمحامين، وانا اقترحت مؤخرا انه لضمان مستوى تمثيلي أكبر للمحامين ان يقع تعيين ممثلي الهيئة في المجلس هما العميد السابق للمحامين والعميد المباشر أما بالنسبة للأثنين الآخرين، فان النص القانوني قد اقتضى بأن يتم انتخابهما من بين هيئة التدريس التي تعينها هيئة المحامين اذ أنه إذا كان الامر كما هو معمول به الآن بالمجلس الأعلى للقضاء فإن المدرسين لا يقل عددهم عن 60 مدرسا.

وإذ كانت هيئة المحامين ستعين 4 منهم فإن المدرسين الآن بكليات الحقوق الخمس (تونس I وII وسوسة صفاقس وجندوبة) هو اغلبهم من المحامين وهذا يعني ان ممثلي المدرسين سيكونون من المحامين يعني ان عدد المحامين بالمجلس العلمي للمعهد سيكون في حدود ثمانية وهو ما يؤكد الاغلبية للمحامين داخل تركيبة هذا المجلس.

وبالطبع بالنسبة للقضاة، فاني اتمنى ان يقع تعيينهم من ذوي الكفاءات العالية حتى يصبح معهد المحامين مثله مثل المعهد الاعلى القضاء الذي اقول بكل فخر سيكون مفخرة من مفاخر تونس اذ لا وجود لمثيل له في العالم العربي لانه سيمكن تونس من الحصول على مستوى رفيع.هذا المجلس هو الذي يقرر عدد الذين يمكن قبولهم عن طريق المناظرة وهو الذي يقرر سواء التدريس أو عدد المدرسين بحيث لا جدال في ان التسيير سيكون لهذا المجلس لا للإدارة وهو مجلس يجمع بين التركيبة الثلاثية تتخذ فيه القرارات بالاغلبية ولذلك انا اساير من يرى ان هذا المعهد سيمس استقلالية المهنة.

وقد أوليت هذا الموضوع اهمية كبرى لان الازمة القائمة بين الهيئة ووزارة العدل كان من أسبابها هذا الموضوع.

وكان بالتفاهم الوصول الى حل خاصة بعد ان سلم السيد وزير العدل بان المدير العام سيكون من ضمن المحامين المرسمين بالتعقيب.

* كنتم ضمن اللجنة التي اعدت مشروع القانون الاساسي للمحاماة والذي لم يتم التصويت عليه فما هي وجهة نظركم في مضمون هذا المشروع؟

ـ التحوير الذي يجب ان يدخل على قانون المحاماة لان القانون الحالي يعود الي سنة 1989وقد وضع لادارة المحاماة عندما كان العدد في حدود 1200 والان يكاد يبلغ العدد 6 آلاف.

ولذلك بينت انني سأتقدم الى السلطة بطلب تنقيحات كاملة في حدود اكتوبر ونوفمبر المقبل وذلك بوضع آليات تتعلق ببعث فروع لمحاكم الاستئناف والبالغ عددها 12 وذلك لتقريب الخدمات للمحامين اما الاصلاح الثاني، فإنّ الهيئة الوطنية تتركب من العميد و7 أعضاء وهذا العدد قد يكون كافيا سنة 1989 اما الان فيجب الترفيع فيه على ما لا يقل عن الضعف.

* هذه المقترحات او الاصلاحات ترتبط اشد الارتباط بالمدى المتوسط، لكن ماذا تطرحون على الصعيد الاستراتيجي؟

ـ على مستوى المدى البعيد، فإنه لابد من اعادة التفكير في صلاحيات رئيس الفرع وصلاحيات بقية اعضاء الفرع لأنه حاليا لا وجود الا لرئيس الفرع وهو ما ادى احيانا الى شيء من التعسف وبعيدا عن التسيير الديمقراطي.

واعادة التفكير في صلاحيات التأديب و الاحالة والذي هو من خصائص رئيس الفرع لانه ادى بدوره الى كثير من التعسف.

فإن مقترحي ان يكون لرئيس الفرع الحق فيالاحالة وتجتمع هيئة الفرع لتقرر هل هناك مبررات لذلك.

كما ان موضوع الاحالة على عدم المباشرة لا يمكن ان يكون من صلاحيات مجلس الفرع لان مجلس الهيئة هو الذي يقرر ذلك.

* هناك قضية هامة تشد اهتمام المحامين تتعلق بالحصانة فما هي مقاربتكم لهذ المبدإ؟

ـ هذا الموضوع (الحصانة) فإن صياغة الفصل 46 من القانون الاساسي للمحاماة يجب ان يتغير.

وان لم تحدث مشاكل طيلة السنوات الماضية ولم تحدث الا مع الاستاذ فوزي بن مراد وما حصل له يجعلنا مجبرين على اعادة النظر في هذا النص.

لان الاستاذ بن مراد صرح بعبارة لا تدخل في الجرائم التي عددها الفصل 46 ورغم ذلك فانه اوقف حالا وترك من منتصف النهار الى الرابعة بعد الظهر لتستقدم زوجته ليعلمها بان زوجها بحالة إيقاف ثم ليودع بعد ذلك السجن دون ان يعلم عميد المحامين ودون ان تتوفر للمحامي اي ضمانات والمؤسف ان الفصل 46 على حالته الان يسمح بمثل هذه الاجراءات فلابد ان تعاد صياغة هذا الفصل بان المحامي الذي يرتكب جريمة مجلسية لا يوقف ؟؟؟ وانما يحال امره وهو بحالة سراح على التحقيق ويشعر عميد المحامين بذلك وتوفّر له الضمانات الكافية ولا يصبح إدخاله للسجن ممكنا الا عندما يصبح الحكم نهائيا في حقه اي بعد استفراغ كل وسائل الطعن.

وأنا لا اقول ان المحامي فوق القانون ولكن وهو رجل الدفاع يجب ان تتوفر له كل الضمانات حتى لا تعاد مثل قضية الاستاذ بن مراد.

* وهل تنوي الاستئنس بالافكار والمشاريع السابقة في قطاع المحاماة خاصة وان البرامج الانتخابية متعددة ومتنوعة!!

لن ابني على فراغ وسوف اخذ بكل ما تم من دراسات ومطالبات من الهيئات السابقة لنتبيّن منها ماهو صالح للتطبق وماهو في مصلحة المهنة لنبني عليه.

* كنا نتوقع ان يتم التصويت على مشروع القانون الداخلي للمحاماة والذي شاركت مع العديد من المحامين والعمداء في صياغته لكن حصل العكس فكيف تقاربون هذه العملية؟

ـ القانون الداخلي للمحاماة منذ 1961 لم يصدر قانون داخلي لان ذلك القانون قد تجاوزه الزمن ولان الحاجة ملحة لاصداره، كنا نتوقع ان يتم التصويت عليه بعد ان اعده العميد بن موسى واللجان التي بعثها اعدادا جيدا، لكن عدم التصويت عليه بتعلة ان هذا القانون قد لا يكون ملائما في هذه الفترة.

واذا ما تم انتخابي فاني سأعيد طرحه على مناقشة والتصويت واعتقد ان مثل هذا البرنامج لمهني يمكن ان يصبح من شأن المحاماة ويعيد بها اشعاعها واحترامها ومكانتها.

(المصدر: جريدة "الشعب" (نقابية أسبوعية – تونس) الصادرة يوم 23 جوان 2007)


للوفاء والذكرى:

أحمد التليلي في الذكرى 40 لوفاته:المناضل الذي لن يُنسى ابدا...

تنمية لمعارف الاجيال النقابية الصاعدة وتوثيقا للصلة بينهم وبين تاريخ حركتنا النقابية وتعريفا بروادها ورموزها نورد في ما يلي في اطار إحياء الذكرى الاربعين لوفاة المناضل الوطني والنقابي المرحوم احمد التليلي مقتطفات من القصة الكاملة لحياته والتي كنا نشرناها في ذكرى وفاته الخامسة والثلاثين.

كان والد احمد التليلي فلاحا كادحا معيلا لاسرة كبيرة تتركب من زوجتين وثلاث بنات وخمسة اولاد اصغرهم أحمد.

* حرص على تربيتهم تربية اسلامية محافظة وقد سلم اولاده الذكور الى مؤدبين بالقرية وخص من بينهم أحمد بارتياد المدرسة الابتدائية الفرنسية.

* توفي الوالد وترك ابنه احمد صغيرا حيث شغف بدروس التاريخ والحساب وكانت عيناه متفتحة على مظاهر الاستعمار والطغيان وعلى مظاهر الرفاه التي توفرها شركة فسفاط قفصة لابناء الفرنسيين بالحي الاوروبي في حين يلاحظ فقدان قريته لابسط المرافق الضرورية وكان يحدث أترابه عن هذا الحيف والقهر ويحاول ان يثير سخطهم على هذا الظلم الصارخ وكان يتزعم اصحابه ويقصد الحي الاوروبي لاستفزاز ابناء وبنات الفرنسيين.

* وشغف احمد التليلي في ذلك الوقت بالمجالس الادبية التي تنظم ببطحاء باب السور وقد وصل الى نهاية تعليمه الابتدائي وفي جرابه زاد وفير من المعرفة والثقافة اهله لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية والحصول عليها في جوان .

* واختارت عائلته ان يواصل تعليمه الثانوي بالمعهد الصادقي بتونس ونجح احمد في الانتماء الى هذا المعهد وهناك التقى بكوكبة من الطلبة جمعت بينهم مقاعد الدراسة والحس الوطني فكونوا مجموعة عمل داخل جمعية الشبيبة المدرسية القائمة آنذاك بنشاط ظاهره ثقافي وباطنه وطني ووجد أحمد التليلي في مجالها ضالته المنشودة.

* وقوي عود أحمد التليلي بمزيد الالتحام بالمناضلين من الحزب والطلبة وانخرط سنة بخلية سرية شبابية للمقاومة ومن جراء ذلك اطرد من المعهد في السنة الدراسية ـ ورجع الى بلدته والتحق بفريق الشبيبة الدستورية وكون خلية للعمل والمقاومة السرية اطلق عليها اسم «اليد السوداء» وتفطنت السلط الاستعمارية الى نشاط هذه الخلية فالقت القبض على أحد عناصرها فيما ربط أحمد علاقات بالعديد من الشبان والقياديين فكان له دور في الكفاح الوطني.

* لكنه ابتعد عن كل نشاط وفكر في الشغل ولم يجد لذلك سبيلا فقرر الاغتراب والهجرة فسافر الى الجزائر في جانفي فآواه هناك احد اقاربه وادخله شريكا في تجارته ثم تعاطى خطة كاتب عمومي وكان في نفس الوقت يزاول دروسا ليلية. وتعرف هناك على عدة شخصيات وطنية وانضم الى حزب الشعب واهتم بالاطلاع على تاريخ الثورات الشعبية وبالخصوص ثورة عبد القادر الجزائري ضد الحكم الفرنسي.

* في خريف سنة عاد الى العاصمة لمواصلة دراسته بالمعهد الصادقي بتدخل شخصي من أحد أعيان البلاد وتعرف بحي باب سويقة على زعماء الحركة الدستورية وشاركهم في كل المحطات النضالية ضد المستعمر الغاشم الى ان حصل على شهادة المؤهل وعاد الى بلدته حيث شغل سنة خطة معلم نائب ثم معلما ببلدة القطار وحصل خلاف بينه وبين مدير المدرسة الفرنسي فتم اعفاؤه وظل عاطلا عن العمل وتزوج فتاة من قريته لكن أوزار الحرب العالمية الثانية وتنكيل الاستعمار بالاهالي جعلت احمد التليلي ينضم الى عدد من الاهالي الذين قاموا بدور الهلال الاحمر للاسعاف والانقاذ فجمعوا الملابس القديمة والمؤن والادوية وكانت هذه الحرب حافزا للاستنهاض والانصراف الى تكوين جمعيات.

ومن هنا كانت لاحمد التليلي مواعيد مع التاريخ ومع العمل التحريري والكفاح ضد المستعمر.

الديمقراطية والتنمية في فكر أحمد التليلي

تواصلا مع المنهج المعرفي الذي اختارته المنظمة الشغيلة وجدنا في المكتبة النقابية اصدارا عنوانه الديمقراطية والتنمية في فكر أحمد التليلي وقد كان قدم هذا الاصدار من طرف الزميل ابراهيم خصومة في العدد 820 لشهر جوان .2005

وفي ما يلي اهم الخطوط التي ارتكز عليها هذا الاصدار الموظب من قبل قسم الدراسات والتوثيق .

تعززت المكتبة النقابية في الايام الاخيرة باصدار جديد بعنوان الديمقراطية والتنمية في فكر احمد التليلي الفه نجل فقيد الحركة النقابية التونسية الاستاذ رضا التليلي.

هذا الاصدار الجديد الذي توزع على 335 صفحة وجاء في سلسلة رؤى عمالية لمنشورات قسم الدراسات والتوثيق بالاتحاد العام التونسي للشغل يتدرج في سياق ما دأب عليه القسم في السنوات الاخيرةمن جهد متميز قصد احياء الذاكرة الوطنية والوقوف عند المحطات التي ميزت الظاهرة النقابية ببلادنا كما انه يتنزل ايضا في اطار استحضار رواد حركتنا النقابية الوطنية وأعلامها الذين نذروا انفسهم للنضالين الوطني والاجتماعي وبذلك يكون قسم الدراسات والتكوين قدحقق اهدافه العامة والتي من اولها توثيق اعمال الرواد ومقارباتهم وهو جهد يظل دائما في حاجة متأكدة لدعم الدارسين والباحثين والمهتمين بذاكرة الاتحاد العام التونسي للشغل والحركة الوطنية.

الكتاب المرجع

في توطئة كتابه «الديمقراطية والتنمية في فكر احمد التليلي» يقول الاستاذ رضا التليلي.. ويمثل هذا الكتاب مجموعة مداخل لاثراء مرجعيات الذاكرة الوطنية حيث لا نريد منه قراءة ذاتية لتلك الفترة او لتلك الشخصية بل سعينا من خلال هذا الكتاب الى ان نتفاعل مع نفس المنهجية التي توخاها أحمد التليلي في معالجة قضية الديمقراطية والحريات ببلادنا في تلك الفترة... هذا الكلام يحيلنا طبعا الى منهجية العمل التي اختارها المؤلف الذي حاول قدر الامكان التخلي عن ذاتية التعامل مع ارث خاص جانحا ببحثه الى اقصى ما يمكن من الموضوعية رغم ان المحاولة تظل في هذا الامر من العسر بمكان خصوصا حينما نعلم حجم الحملات التشويهية التي طالت فقيد الحركة النقابية الوطنية من خارج اطر المنظمة النقابية سنوات قليلة قبل وفاته.

ومهن هنا تكمن اهمية هذا الاصدار الذي جاء شاملا لمسيرة نضالية حافلة بالمحطات المضيئة لزعيم نقابي بحجم المرحوم احمد التليلي ولعلنا لا نغالي حينما نؤكد ان اقدام قسم الدراسات والتوثيق على اصدار هذا الكتاب وبما احتوى عليه من اقسام اربعة اهتمت بنشأة وبدايات احمد التليلي، وأحمد التليلي مناضلا سياسيا ونقابيا ناشطا في الحركة المسلحة، وتجربة احمد التليلي من بناء الدولة الوطنية الى بداية تبلور المشروع الديمقراطي والمسألة الديمقراطي لدى احمد التليلي وما تضمنه هذا الكتاب ايضا من وثائق هامة يظل بوابة اخرى لمزيد درس شخصية وفكر هذا المناضل الوطني.

من مواقفه

تحدّث إلى بورقيبة في رسالة ظلّت مرجعا في الشجاعة وفي حرية الرأي والتعبير وفي الممارسة المسؤولة، نورد منها الفقرة الآتية:

«لولا الاعانة الأجنبية لعرفت البلاد المجاعة بالاضافة إلى البطالة التي تنتشر باستمرار وفي نفس الوقت تتكوّن طبقة جديدة تثرى على حساب الشعب الذي يغرق في الفقر والبؤس والرّشوة... إنّه السباق نحو تجميع الثروات ببناء القصور الحقيقية وامتلاك الضيعات وبالنسبة للحذرين، تهريب الأموال إلى الخارج، كل هذا ورئيس الجمهورية هو الوحيد الذي يعتقد أنّ كل شيء يسير على أحسن مايرام في البلاد وأنّ تسيير الأمور سليم وأنّ البلاد تتقدّم في كل المجالات.

وبدون رغبة في التهويل بات من الثابت أنّ النّظام اليوم في عزلة في الدّاخل والخارج.

من رسالة إلى بورقيبة سنة 1965

** تواريخ في حياته

* ولد أحمد التليلي يوم 10 أكتوبر 1916 بقصر قفصة.

* توصّل بمعيّة الزعيم فرحات حشاد إلى تكوين اتحاد النقابات المستقلّة سنة .1941

* انتخب سنة 1946 عضوا بالهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل.

* سهر على إيفاد متطوّعين إلى فلسطين سنة .1948

* حضر سنة 1951 أشغال المؤتمر الثاني للنقابات الحرّة بمدينة ميلانو.

* تمّ إيداعه السّجن في فيفري .1952

* أُفرج عنه سنة 1954 وانتخب أمينا عاما مساعدا للاتحاد العام التونسي للشغل.

* انتخب نائبا لرئيس السيزل سنة 1956 واستمرّ في هذه المسؤولية إلى حدود سنة .1964

* تمّ اقصاؤه من الحزب سنة .1965

(المصدر: جريدة "الشعب" (نقابية أسبوعية – تونس) الصادرة يوم 23 جوان 2007)


(من ذيول النقاش حول حرب لبنان)

هل توجد حداثة بلا هويّة ؟ وهل الهويّة مُعطى جامد؟

د . الطاهر الهمّامي (*)

وقع بين يديّ مؤخّرا نصّان مثيران للجدل، أحدهما يمجّد العلمانية ويَحمل على الهويّة، والآخر يحمل على العلمانية ويُجلّ الهويّة، وكلاهما في المغالاة والأحادية ونكران الواقع والوقائع سواء. نصّ حوار أجرته الأسبوعية «مواطنون» مع د.رجاء بن سلامة تحت عنوان «العلمانية هي الأرضية الوحيدة التي تضمن المساواة والكرامة والحرية» ( ماي ) ونصّ مقال ردّ به د.أبو يعرب المرزوقي على من سمّاهم «بعض أدعياء العلمانية وأعداء الإسلام» ونشرته «القدس العربي» ( ماي ).

ولقد سبق لي أن ناقشت الطرح الذي طرحته السيدة بن سلامة في خصوص الحرب اللبنانية والموقف من «حزب اللّه» والمقاومة، وخالفتها حين استخفّت بالمقاومة وأبطالها الذين خضدوا شوكة العدوانية الصهيونية، وبِقِيَم مثل التضحية والاستبسال، وحين لم ترَ في «حزب اللّه» سوى جماعة إرهابية أو ميليشيا دينية عاملة لحساب أطراف خارجية، وحين حدبت على قتلى صواريخ المقاومة من الإسرائيليين حدْبا يفوق حدبها على ضحايا القصف البرّي والبحري والجوّي الإسرائيلي من اللبنانيين أصحاب الحقّ. خالفتها ذلك واستنكرت موقفها من المثقفين والإعلاميين والأُناس ـ عربا وأجانب ـ الذين وقفوا ضدّ الجرائم الصهيونية وطالبوا بخروج المحتلّ من لبنان وفلسطين والعراق، وحيّوا المقاومة الوطنية وصمودها وقدرات قيادتها في إدارة معركة غير متكافئة.

ومرّة أخرى تعود السيدة رجاء بن سلامة لتعزف العزف نفسه في هذه القضية وفي غيرها من القضايا التي تهمّ راهن المجتمعات العربية والإسلامية وخاصّة ما تعلّق بقضايا الحرية، والهويّة، والنهضة. ولم يخل كلامها من ردّ (ساخر) على الردود التي عقبت تصريحها الأوّل المنشور على موقع إلكتروني قبل أن تُعيد نشره بعض الصحف.

و مرة أخرى أسجّل أن مدار الخلاف معها و مع المثقفين العازفين عزفها هو على قراءة المرحلة وطبيعتها و بالتالي على طبيعة الصراع الدائر، و التناقضات القائمة، وبالتالي على الموقف من المسألتين المطروحتين اليوم في جدول أعمال بلداننا ومجتمعاتنا: المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية. والرّأي عندي أنّ عديد المثقّفين العرب، وهم في المهبّ، تعذّر عليهم أن يروا وجه الحلّ حين ركبوا خطاب الوطنية والهويّة وأهملوا نداء الحرية والديمقراطية التي من شأنها تعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الغزو، وإعطاء الهويّة مضمونا تقدّميّا قادرا على مواجهة المحو. وكذلك أخطأوا حين ركبوا خطاب الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحداثة، والعلمانية، بمعزل عن الهويّة الوطنية والقومية، وبمنأى عن الإرث الحضاري الخصوصي.

ولقد قدّمت الأحداث الجارية في العراق وغير العراق مثالا ساطعا ودليلاً قاطعا جديدا على التوظيف الاستعماري الماكر لتلك الشعارات والمطالب المدنيّة المشروعة حين حملها الغزاة جوّا وفي شكل معلّبات وأتوا بها على الأخضر واليابس، ومن ضمن الأخضر وحدة العراق واستقلاله وعروبته وحمولته الرّمزية. ولقد كان هؤلاء ومازالوا يرومون فرض عالم على صورتهم، وحداثة بـ «هويتهم» وعلمانية على قدر مصالحهم، وحرّية تفرّق ولا تجمع، وديمقراطية تفتح الباب للطائفية ومُحاصصاتها، ومُضارباتها، ومواجهاتها، ولتفتيت البلد وإبقائه تحت «رحمة» المخابرات المركزية والموساد، وإنهاء دوره في بناء النهضة العربية المنشودة.

وقدّمت مشاريع التنمية الفاشلة والتحديث المزعوم في بلدان «العالم الثالث» التي ركبت موجة الخيار «الاشتراكي» أو التي نهجت نهج «الانفتاح» و «اللّبْرَلَة» أدلّة قاطعة أخرى عن مآل الاستخفاف بالهويّة القوميّة والخصوصية الحضاريّة، وأفضى ذلك كما هو مشهود إلى إفراز نتائج عكسيّة، بدائل أصوليّة وأجوبة ظلاميّة متلفّعة بالأصالة والهويّة، مستغلّة الفراغ الذي خلّفه الاغتراب وحفَرتْه التبعيّة.

إنّ تجربة الاحتكاك بالشباب، في مختلف مراحل التدريس، طيلة عاما من حياتي المهنيّة، بيّنت لي كيف أفلح الخطاب الأصولي، الراكب موجة الهويّة التي اختزلها في الدّين والتديّن، وهو يخاطب تلاميذ وطلبة العلوم والتّقنيات، ولم يُفلح كثيرا وهو يخاطب غيرهم، لأنّ هؤلاء يُلقّنون هذه المعارف، عندنا، بمعزل عن التّفكير في تاريخها، وعن ربطها بالتاريخ العام وبغيرها من المعارف، وعن البيئة التي أنجبتها، وعن تجاوز استهلاكها إلى إنتاجها. ولا يبقى أمام الشباب في هذه المرحلة العُمريّة والذهنيّة الدقيقة سوى اللّوذ بدرس «التربية الدينيّة» يَرْوي منه غُلّته ويعثر على أجوبة لأسئلة الهويّة، سَوِيّة أو غير سويّة. وأسئلة الهويّة من أسئلة المسألة الوطنيّة، التي عادت لتُطرح اليوم بحدّة، في ظل «النظام العالمي الجديد» وعودة الاستعمار المكشوف، والغزو السافر، وفي ظل عولمة المحو والتصفية الثقافية والحضاريّة، وتعميم «هويّة» كونيّة هي هويّة الغالب والمنتصر والأقوى، هويّة «وحيد القرن» و «عقرب السّاعة».

وحين تتساءل زميلتي «كيف يمكن لمثـقّف يعتبر نفسه تقدّميّا أن يدافع عن نصر اللّه في الصيف وأن يطالب بالمساواة بين الجنسين في الشتاء» فذلك يؤكّد مرّة أخرى أنّها لم تدرك ـ أو لا تريد أن تدرك أو هي تدرك وتتعمّد عدم الإدراك ـ طبيعة المرحلة، والمعركة، وطبيعة التناقضات التي تحرّك الواقع وسبل حلّها لصالح الطرف الضحيّة، وبالتالي فالمعطى الأساسي الذي فرض المسألة الوطنية أولويّة عراقية وفلسطينية ولبنانية وسوريّة والمتمثّل في واقع الاحتلال والحصار والعدوان وخلع الأنظمة الوطنية وتنصيب العملاء بالقوّة وتأجيج الفتن الطائفيّة واستهداف الوجود العربي ورموزه ظلّ غائبا من نظرتها وأحكامها، فعسّر عليها أن تستوعب اللّحظة ومقتضياتها، وحال جمود النظرة وتجريدها دون فهم مغزى أن تلتقي «حزب الله» صيفا ولا تلتقيه شتاء، بل مغزى أن تلتقيه ولا تلتقيه صيفا أو شتاء، تلتقيه في خندق المقاومة ولا تلتقيه في خلفيته العقَديّة أو في برنامجه الاجتماعي ورؤيته المجتمعية.

فلقد بات من ثوابت الأدب السياسي ونظريّة التحرير أنّ الوطن حين يتعرّض للخطر الخارجي يفرض على كافة الفرقاء داخله أن يُخضعوا تناقضاتهم للتّناقض الرئيسي مع الخطر الدّاهم. ولقد كان لبنان وقتها، في تلك الصائفة، تحت نار العدوان الصهيوني الغاشم وكان لابدّ من صفّ وطني عريض قدر الإمكان جسّدته المقاومة ميدانيّا، ومِن فرز يَكشف وجوه العملاء العاملين على وضع لبنان تحت الوصاية الاستعمارية الجديدة والتضحية بشعبه ومقاومته وعروبته.

وكان «حزب الله» (الذي لا أرتضي خلفيته العَقَديّة ورؤاه الاجتماعية...) أبرز فصائل المقاومة الوطنية. فهل تَحُول خلافات الغد حول نمط المجتمع والحكم دون اتّفاقات اليوم حول التصدّي للعدوان ومقاومة الاحتلال ورفع الإذلال؟ إنّ الديمقراطي أو العلماني أو الحداثي الذي يتخلّف عن معركة التحرّر الوطني أو يشكّك فيها وفي عدالتها يفقد مصداقيته ولا يجد من يصغي إلى خطابه الديمقراطي أو العلماني أو الحداثي، وأولى به أن ينسحب داخل قوقعته وينتظر أيّامًا سعيدة خالية من العنف مادام لا يريد معالجة ظاهرة العنف بما هي نتاج مجتمع الاستغلال والاضطهاد، ومادام لا يريد التمييز بين عنف الظالم وعنف المظلوم ولا يرى من حلّ سوى «الفعل الإيجابي» (؟؟!) والاحتكام إلى «الشرعية الدولية» و «المنتظم الأممي» و «المطالبة بالحقّ» (!!!)

وحين يستوعب المرء طبيعة المرحلة والمعركة والتناقضات ويستخلص الدروس ويستوي عنده ميزان التفكير فإنّه لن يجرؤ على الاستخفاف بـ «مثقّفي الهويّة» أو على الأقل لن يضعهم في كيس واحد، ولن يتحدّث عن الحداثة والعلمانية والحرية حديثا مجرّدا، كما لو أنّ هذه مفاهيم نازلة من السماء ولم يكن لها تاريخ وصلة بالواقع وحراكه وتناقضاته.

فالحداثة التي نقف اليوم على فشل ما تناهى منها إلى مجتمعاتنا لم تفشل، فيما نرى، إلاّ لكونها لم تنبت في التربة الوطنية ولم تنشأ عن ضرورة داخلية بل كان إسقاطها عن طريق الحَقْن الخارجي (العنف الاستعماري والإلحاق) فمسّت القشرة والجلد وما مسّت العقل، والروح، فظلّت حداثة أزياء وأثواب وأشكال مبطّنة بِخلطة من هويّتين متنابذتين: هويّة قويّة غالبة منتجة وهويّة ضعيفة مستضعفة مستهلكة وجدت في الدّين والقناع التديّني حصنها الأخير، ويبدو لنا بقاؤها وتعافيها مرتهنا بإقبال أهلها على التّفكير الجدّي في شروط نهضتهم التي لا تبدأ من التخلّي عن هويتهم بل من إعادة النّظر في مفهومها ومحتواها بما هي معطى حيّ يتشكّل عبر التاريخ والتناقض ويضمّ إلى عناصره القديمة عناصر جديدة ويحوي، عدا عناصره المحافظة عناصر تحرّريّة، والدّين بما هو عقيدة لا نراه يشكّل أحد تلك العناصر (لأنّ المعتقد شأن خاصّ وأمر شخصي) بل نراه يُسهم في تشكيلها بما هو حضارة شيّدها إبداع معتنقيه من مختلف الأقوام والطوائف. وهذه الفكرة تضع المقال على عتبة النّقاش الذي يثيره ردّ الدكتور أبو يعرب المرزوقي، والذي نزمع إجراءه لاحقًا.

(*) كاتب وشاعر تونسي

(المصدر: جريدة "الشعب" (نقابية أسبوعية – تونس) الصادرة يوم 2 جوان 2007)


إسرائيل وكونداليزة في الموعد كالمعتاد؟!

يروج الإعلام الدولي الأسود كالعادة أكاذيب الإدارتين الصهيونية والأمريكية: يروج حديث إسرائيل عن تخوفها الكاذب من انتقال الاقتتال الفلسطيني من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، ويروج ادعاءات كونداليزة بوقوفها إلى جانب حركة فتح على حساب حركة حماس...

أنا أعتقد بالعكس أن الإدارة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية الأم بذلتا كل ما في وسعهما لحصول الاقتتال الفلسطيني المدمر منذ عقود. وها هما يقطفان الثمار بما انطلق في قطاع غزة من التدمير المتبادل بين فتح وحماس أو التدمير المخطط لمنظمة التحرير الفلسطينية ووعي التحرير والنهضة للشعب الفلسطيني.

لعل القارئ الكريم لم ينسى، حين كانت حماس ترفض المفاوضات وترفض الهدنة مع إسرائيل وترفض قيام السلطة الفلسطينية أصلا وحين كان بوسع السلطة ضبط تصرفات حماس وغيرها وإجبارها على احترام اتفاقات الهدنة، لعله لم ينسى نداءات ياسر عرفات حينذاك بإقامة قوات دولية للفصل ومواصلة المفاوضات وانسحاب القوات الإسرائيلية؛ لعله لم ينسى ما كان يحصل من رفض حماس للهدنة وما كان يحصل من " الصدف " الغريبة كلما كانت صواريخ حماس وعملياتها العسكرية ضد إسرائيل تنطلق ليلة مواصلة المفاوضات فتبادر إسرائيل باكرا برفض مواصلة المفاوضات ورفض الانسحاب وترسل قواتها للقتل والاعتقال وتهديم المنازل في الأراضي المحتلة؛ لعل القارئ الكريم لم ينسى أن الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية هما اللتان رفضتا إقامة القوات الدولية للفصل ، لعله يتذكر أنه عوضا عن قوات الفصل أقامت إسرائيل جدارا للفصل بمعاييرها الخاصة فكان جدار سجن حقيقي قد يكتسي مرارة مضافة بما قد يحصل داخله من الاقتتال الطائفي والانحدار الحضاري على الشاكلة الأفغانية أو العراقية.

اليوم يفنى الأمل في مواصلة المفاوضات ويُنسى الجدار الفاصل ويقوم الاقتتال حسب الخطة التي رسمتها الإدارتان. معذرة منهما على حديثي حول هذه الخطة الخفية فرفضهما لنداءات ياسر عرفات لا تعني سوى ذلك ولم تحقق سواه.

لعل القارئ الكريم لم ينسى الطلب الملح الذي قدمته الإدارتان للسلطة الفلسطينية بالقيام بتلك الانتخابات الفلسطينية التي أوصلت حركة حماس للبرلمان والحكم. لعله يعتقد مثلي بأن الإدارتين لا تريدان الديمقراطية ولا الحضارة ولا التحرر للشعب الفلسطيني وإنما نادتا بالانتخابات الفلسطينية في ذلك الظرف المحدد لحسابات سياسية معادية للشعب الفلسطيني: هي تلك الحسابات البينة اليوم والتي تتمثل في انتصار حماس وانتصار الفكر السلفي وقيام الاقتتال الفلسطيني كمقدمة للقضاء على مقاومته الأصلية ووعيه الحضاري. وها هي إسرائيل بعدما كانت تقاوم ياسر عرفات بغصن الزيتون على بندقيته فلا يقبل عدوانها أحد قد صارت تقاوم حركة، تصرح بقتل من لم يدخل الإسلام وباستعباد زوجته وأطفاله، فيصفق لها الكثيرون..

كم تمنيت، بعد انتصار حماس في الانتخابات التشريعية، أن تترك فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية كل مؤسسات السلطة. كنت ومازلت أرى من الأصلح أن تعود منظمة التحرير إلى الجبال وأن تغادر قياداتها ميدان السلطة فتترك المجال واسعا وكاملا لحركة حماس لكي نشاهد ما الذي ستفعله. سيربح الشعب الفلسطيني في كل الحالات: فإن دمرت حماس دولةَ إسرائيل فإنه الكسب العظيم، وإن تغلبت إسرائيل فسنفهم ما في خطاب حماس من الطفولية أو المغالطة وهذا كسب أيضا بما يعنيه من إصلاح للوعي والمسار، أما إذا تساهلت (أو انهزمت حسب الخطاب الآخر) إسرائيل فتركت المجال لحماس لإقامة الدولة الفلسطينية وتساهلت حماس فاكتفت بمطلب الدولة الفلسطينية حسب المواثيق الدولية، فإننا سنبدأ في مشاهدة "التعايش البناء" بين العدوين الإلهيين وسنقتنع وقتها بأن الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية خططتا حقا لإقامة دولة فلسطينية حسب المقاييس الشرق أوسطية : دولة على شاكلة قطر أو السعودية أو إيران في أحسن الحالات؛ وإن انفضاح مثل هذا الأمر سيكون كسبا لجميع العرب والمسلمين.

فليتفحص القارئ الكريم بحكمة وتبصر ما تسارعت الإدارتان الأمريكية والصهيونية بنشره عبر إعلامها الدولي الأسود: هل هي حقا تدعم حركة فتح كما تدعي علنا أو مسرحا ومغالطة أم هي مع حماس بواسطة حماس ڤيت من نوع إيران ڤيت؟

فتش أيها القارئ تحت الطاولة وفي أسرار السياسة الأمريكو- صهيونية وحاول أن تجيب على السؤال : لماذا حين طلب ياسر عرفات قوات دولية للفصل رفضوا طلبه وكلما تخاصمت فتح مع حماس يلتقي بطلا التمثيل في المسرح الإعلامي الأسود في الموعد ليتظاهرا بمساندة فتح على حساب حماس؟ ألا تكون غايتهما إعطاء شهادة المقاومة والمعادات لأمريكا وإسرائيل إلى حركة حماس وإرسال الانطباع بصفة الخيانة والعمالة في حق حركة فتح ومنظمة التحرير؟ ألا يكون مثل هذا الدعم السياسي لحماس أخطر وأكثر فاعلية من الدعم المالي لحركة فتح الذي تعلنه أمريكا ليلا ونهارا في كل أبواق الإعلام الدولي الأسود؟

لا بد في الختام أن أعتذر للشعب الفلسطيني على ما حصل مني من تدخل في شؤونه وللمناضلين الصادقين في حركة حماس على ما قد يستشعرونه في كلماتي من حدة النقد فلست أحمل في زوايا القصد سوى الاحترام كله لكل المقاومين الصادقين في حركة حماس كما في حركة فتح... عسى أن ينتهي الاقتتال الفلسطيني وتتوضح السبيل للخلاص.

زهير الشرفي- تونس. 15-6-2007


حريتا التفكير والتعبير ..والهشاشة الفكرية

محمد بن نصر birali@hotmail.com

كم هي عديدة المناسبات والمنابر الفكرية وغير الفكرية التي استمعت فيها لكلمات التمجيد والاحترام بل و الالتزام بالدفاع عن حرية التفكير وحرية التعبير عنه وفي كل مرة يشفع الكلام الجميل ب "ولكن"، تأتي مدوية لتنسف كل ما تقدم، تأتي لتقول إن حرية التفكير لها حدود يقررها العقل والدين والقانون وتتسع هذه الحدود عند التطبيق لتصبح فرعا ممتدا ومتسعا أفقيا وعموديا وأكثر اتساعا من الأصل ويقع الخلط عمدا بين آداب التعبير عن الرأي و بين ضوابط التعبير عنه . و تصبح الضوابط قيودا صارمة وتختنق الحرية في مضايق الولاء حتى يخيّل إليك أنه في المحصلة النهائية ليس هناك فرقا يذكر بين المدافعين عنها وبين المتحفظين عليها. لازلت أذكر الشعار الذي كان يرفع في أروقة الجامعة التونسية "لا حرية لأعداء الحرية" ولازلت أذكر أن بعضا ممن كانوا يوصفون بأنهم من أعداء الحرية فكروا في ممارسة الأسلوب نفسه مع من كانوا يصفونهم بأعداء الحرية وأذكر أنني كنت أردد مع من آمنوا بأن الحرية حق لا يقبل القسمة أو التحيز. إن الفكرة الفاسدة يحييها القمع وتقتلها الحرية لأن فضاء الحرية يجعلها تحت المجهر العقلي أما القمع فيعطيها فرصة النمو في الغموض واكتساب الكثير من التعاطف والقليل من النظر. ولو سمحنا لأنفسنا بتوسيع دائرة النظر وتساءلنا، ألا يعتبر إبليس الذي يلعنه المؤمنون زعيم الرأي الآخر والوسواس الأكبر لما يعتبره البعض أفكارا هدامة، لقد بدأ بمعصية الله قبل أن يولّي نفسه مسؤولية الإفساد في الأرض والدعوة إليه؟ ألم يكن الله عز و جل وعلا قادرا أن ينهي وجوده أصلا ولكن سبحانه شاء أن يعطي لإبليس عهد الأمان إلى يوم القيامة بعد أن حاوره فأطلق له اليد واللسان: قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿14﴾قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ﴿15﴾ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿16﴾ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شمائلهم وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴿17﴾.

إنه لأمر عجيب أن ترى البلاد الإسلامية تمنع التبشير بالأديان الأخرى في حين تطالب بحرية التعبير في البلاد الليبرالية ذات الغالبية المسيحية، بل طالب البعض وهو يظن أنه بذلك يحل مشكلة الصراع الطائفي والمذهبي داخل الملة الواحدة بامتناع أتباع كل مذهب عن الدعوة إلى مذهبهم وإقناع الناس به ، فعوض أن نطور أساليب الحوار نجتث الحوار من أساسه ونحول العالم الإسلام إلى غيتوهات ثقافية فينغلق كل مذهب على نفسه مختزلا الحقيقة فيما يعتقد فيشتد الاحتقان الطائفي حتى إذا انفجر يأتي على الأخضر و اليابس. هذا المنطق الذي حكمته قاعدة سد الذرائع بدعوى التحصين السالب للأمة يقوم على فكرة المنع ثم استحكمت فيها حالة الانطواء على النفس والخوف من التعدد والتنوع بالدعوة إلى قتل المرتد. منطق، فضلا على فساده لم يعد يجدي نفعا في زمن انفتح فيه كل شئ على كل شئ. إن الذين يخافون على الأمة أن تتأثر بالأفكار المنحرفة عليهم أن يسألوا أنفسهم عن أسباب هذه الهشاشة الفكرية التي ألمت بالأمة ؟ و عن هذه القابلية لتقبل ما تفه من أفكار الآخرين، أليسوا هم المسئولون عن جزء منها على الأقل؟

الإجابة عن هذه الأسئلة هي الخطوة الأولى للتحصين الإيجابي. والقفز عنها و اللجوء إلى التكفيرالذي يعكس في عمقه العجز عن التفكير، وقد غاب عن أولئك الذين يلجأ ون إلى إشهار التكفير سلاحا في وجه مخالفيهم أنهم يقدمون لهم خدمة مجانية فعوض أن يتم التعامل مع فكرهم بموضوعية يتعامل معهم على أساس أنهم ضحايا الاستبداد الديني. ويلجأ آخرون إلى صناعة الاجتهاد في الدين وهم يؤمنون قي قناعة أنفسهم بتاريخية و بشرية النصوص المؤسسة له وقد ألجأهم الخوف إلى التستر و عدم الإفصاح عن قناعاتهم خوفا من بطش الذين جعلوا من أنفسهم ناطقين رسميين باسم الدين. مجتمعاتنا في حاجة إلى ملحد مؤمن حق الإيمان بإلحاده، يملك من الشجاعة و الاحترام لنفسه ما يملك إبليس ومؤمن واثق من صحة ما يعتقد و قادر على الدفاع عنه بقوة الحجة لا بقوة العضلات. أسوأ ما تصاب به أمة من الأمم علماني يختزل مهمته في الوجود على استئصال المؤمنين و مؤمن لا هم له إلا النظر في عقائد الآخرين و إلصاق تهمة الكفر بهم. الأول يتخلى عن ليبراليته ليتحالف مع أنظمة فاقدة لكل أنواع الشرعية و الثاني يتخلى عن سماحة دينه ليستأسد وهو الضعيف بالفتاوى الإستئصالية. ورحم الله الشيخ ابن تيمية فقد كان ذا نباهة ثاقبة حين قال: "أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان" ويمكن أن نضيف إلى ما قال: نصف ليبرالي يفسد الليبرالية ونصف متحرر يفسد الحرية، ونصف موحد يفسد التوحيد، كلاهما تحكمه مجموعة من القطعيات والثنائيات المتقابلة وهذا ما أفقد الواقع الإسلامي الحراك الإيجابي ونما فيه الحراك التآكلي الذي يحكمه منطق أنا أو الدمار. مأساتنا تتلخص في انّه من حقنا أن نفكر بحرية تامة ولكن قبل أن نتكلم أو نكتب. فإذا قررنا أن نكتب أو أن نتكلم علينا أن نستحضر الضرورات الثلاث: لا نثير حفيظة أصحاب الشوكة ولا نخالف أصحاب الرأسمال الرمزي ولا نضع رزق عيالنا على ظهر كف عفريت. و يلوذ بعضنا بالصمت ونسي أن الصمت لم يعد مقبولا عند الذين لا يفهمون لغة الإشارة فقد قال لهم خدمتهم من أصحاب القلم أن الصمت لغة. و لأن الصمت موقف يصبح أخطر من الكلام فتأويل الكلام يبقى في النهاية خاضع لجملة من الاعتبارات ولكن تأويل الصمت ليس له مقاييس معينة. هل يمكن بعد ذلك أن يكون المفكر مبدعا مع هذه الكوكبة من الكوابح الذاتية والموضوعية؟ ومع ذلك لا يمكن أن نحلم بغد أفضل طالما أن المستبد حين يطل من باب قصره يرى طوابيرا من المثقفين المستعدين لتقديم خدماتهم.

(المصدر: صحيفة "الشرق الأوسط " (يومية – لندن) الصادرة يوم 23 جوان 2007)


فرويد والعرب : المتّهم الذي لن تثبت براءته


د. رجاء بن سلامة

تناقلت بعض الصّحف والمواقع العربيّة سنة 2003 رسالة لفرويد أبدى فيها تحفّظه على المشروع الصّهيونيّ، وظلّت نتيجة لذلك محجوبة عن الأنظار طيلة سبعين عاما ونيّفا. كتب فرويد هذه الرّسالة سنة 1930 مخاطبا بها حاييم كوفلر، عضو "مؤسّسة إعادة توطين اليهود في فلسطين"، ليعتذر له عن عدم توقيعه النّداء الذي وجّهه إليه من أجل دعم القضيّة الصهيونية في فلسطين ومساندة حقّ اليهود في إقامة شعائرهم بحائط المبكى.

إليكم نصّ هذه الرّسالة، وقد اجتهدت في ترجمته من الفرنسيّة، مستفيدة من ترجمة سابقة يبدو أنّها من الإيطاليّة، آملة أن تصدر ترجمة أخرى لها من لغتها الأصليّة، تكون أكثر دقّة واقترابا من ألفاظ فرويد وتعابيره :
"لا يمكنني النزول عند رغبتكم. لا يمكنني أن أقاوم تحفّظي على لفت انتباه الجمهور إلى شخصي، لا سيّما أنّ الظّروف الحرجة الحاليّة لا تشجّعني على ذلك. من يريد التّأثير في الجموع عليه أن يقول لهم شيئا مدوّيا وباعثا على الحماسة، وهذا ما لا يسمح لي به رأيي المتحفّظ على الصّهيونيّة. إنّني بلا ريب أتعاطف مع كلّ الجهود التي تبذل من تلقاء النّفس، كما أنني فخور بجامعتنا في أورشليم، وأبتهج عند رؤية الازدهار الذي تشهده منشآت مستوطنينا. لكنّني من ناحية أخرى، لا أظنّ أنّ فلسطين يمكن أن تصبح يوما ما دولة يهوديّة، ولا أظنّ أنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ على حدّ سواء سيبديان في يوم ما استعدادا لجعل أماكنهم المقدّسة في عهدة يهود. كان من الأجدى، فيما يبدو لي، بناء وطن يهوديّ على أرض غير مشحونة تاريخيّا. لكنّني أعرف أنّ فكرة عقلانيّة من هذا القبيل لا يمكن أن تستدرّ حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء. وأقرّ أيضا، وبكلّ أسف، أنّ تعصّب مواطنينا غير الواقعيّ يتحمّل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أن أبدي أيّ تعاطف ممكن مع تديّن مؤوّل بطريقة خاطئة، يحوّل جزءا من حائط هيرودوت إلى شيء عتيق مقدّس، ويتحدّى بسبب هذا الشّيء مشاعر سكّان البلد. ولكم النّظر فيما إذا كنت بمثل هذا الموقف النقديّ، الشّخص المؤهل لمواساة شعب يزعزعه أمل لا مبرّر له."
ورغم أنّ هذه الرّسالة لم تسرّ الصّهيونيّين من معاصري فرويد إبّان كتابتها، واتّخذها بعضهم بعد صدورها دليلا على خطإ تشكيك فرويد في إمكان قيام دولة يهوديّة على "أرض الميعاد"، فإنّها لم تسرّ العرب إلاّ من حيث هي وثيقة إدانة للصّهيونيّة. يقول مقدّم الرّسالة في نصّ غير مُمضى تناقلته مواقع عديدة: "وحكاية هذه الرسالة يمكن اعتبارها حدثاً ليس بسبب مضمونها فحسب، والذي من شأنه أن يبلبل خواطر أوساط يهودية كانت تجيز لنفسها إشراك مؤسس التحليل النفسي في عملية الكفاح من أجل إقامة دولة إسرائيل والذود عن حياضها، بل كذلك وخصوصاً بسبب حجبها واحتجازها الطويلين كما لو أنها تنطوي على أسرار تطاول المصلحة العليا والقصوى لدولة أو لمشروع دولة. "
لا شكّ أنّ في مصادرة الرّسالة مظهرا من مظاهر الجهاز السّلطويّ الذي ضغطت وتضغط به الحركة الصّهيونيّة على كلّ من يشكّك في المشروع الصّهيونيّ، بمن في ذلك المفّكرون اليهود أو من ذوي الأصول اليهوديّة. ولكنّ الإشكال الأوّل يكمن في ضيق الرّؤية التي وَضعت أفكار الرّسالة وما تنطوي عليه من مواقف إيطيقيّة بين قوسين، واكتفت باعتبارها وثيقة إدانة للصّهيونيّة أو محاكمة فجّة لفرويد. والمطّلع على سياقات إيراد هذه الرّسالة والتّعاليق التي كتبت عليها في مواقع الإنترنت يفاجأ بأنّ هذه الوثيقة لم تبرّئ ساحة فرويد من الصّهيونيّة التي يتّهمه بها العرب، بل حملت المزيد من الإدانة. فكأنّ العرب في تعاملهم مع هذه الوثيقة أرادوا أن يعرفوا ما يعرفون، ويزدادوا إدانة لما يدينون، وارتيابا في من يرتابون فيه من المفكّرين ذوي الأصول اليهوديّة. حجب الصّهيونيّون الرّسالة لمدّة سبعين عاما. وعندما ظهرت الرّسالة، أخضعها العرب إلى المحاكمة، ليحجبوا مضمونها على نحو من الأنحاء.
من منطلق المحاكمة هذا، لم يتأمّل المعلّقون العرب موقف فرويد النّقديّ من فكرة إقامة دولة يهوديّة على الأراضي الفلسطينيّة، ولم يتدبّروا معاني صونه نفسه عن الإثارة الجماهيريّة، وعدم توظيفه علمه ومركزه العلميّ لخدمة الإيديولوجيا، وعدم تقمّصه دور الضّحيّة المطاردة المضطهدة، رغم أنّه اضطهد فعليّا بسبب أصله وحرم طويلا من بعض المناصب العلميّة قبل أن تحرق كتبه ويضطرّ إلى الهجرة إلى بريطانيا. ولم يكن بوسع قرّاء الرّسالة وهم أسرى لنرجسيّاتهم القوميّة والدّينيّة أن يقرؤوا فيها نقد فرويد للنّرجسيّة الجماعيّة التي استسلم إليها الكثير من اليهود، ورفضه لمجاراة الانغلاق على الهويّة ورفضه للأوهام التي تتبنّاها الجموع، وللتّعصّب غير الواقعيّ، وللأمل "الذي لا مبرّر له".
لم يقرأ المعلّقون هذه المعاني، ولم يتحمّسوا أيضا لها، لأنّهم ربّما كانوا يتمنّون لو لم يكتف فرويد بإبداء تحفّظه إزاء الصّهيونيّة، ولم يبد تعاطفه مع اليهود الذين استوطنوا فلسطين في زمنه. كان عليه أن يتنبّأ أو يكون فوق التّاريخ من أجل إرضاء العرب. كان عليه أن لا يتملّص من الصّهيونيّة فحسب، بل ومن كلّ اليهود، وأن يناصر القضيّة الفلسطينيّة بالطّريقة نفسها التي يناصر بها العرب اليوم القضيّة الفلسطيّنيّة. فعندما كتب إدوارد سعيد منتصفا لفرويد، وعندما ذكّر بالبديهيّات، قائلا إنّ الرّجل: "لم تكن لديه أية فكرة على الإطلاق عما كان يمكن أن يحدث بعد عام 1948"، كتب أحدهم مشكّكا: "هل صحيح أنه لم تكن لديه أية فكرة على الإطلاق عما كان يمكن أن يحدث بعد عام 1948 كما يذهب ادوارد سعيد في محاضرته المذكورة أعلاه (...)؟ تلك أسئلة يصعب أن نتكتمها على الرغم من محبتنا الكبيرة لفقيد الفكر الإنساني ادوارد سعيد."
هكذا توجّه صاحب المقال باللاّئمة على إدوارد سعيد، واعتبر ما كتبه عن فرويد من باب "كبوة الجواد"، لأنّه حسب رأيه ارتكب خطأ الدّفاع عمّن لا يمكن الدّفاع عنه.
توفّي فرويد سنة 1939، ولكنّ العرب يطلبون منه إدانة ما حصل سنة 1948. لم يكن فرويد مناصرا للفكرة الصّهيونيّة، ولم يكن مؤمنا بالعقيدة اليهوديّة، وكان أكثر ما يزعجه اعتبار التّحليل النّفسيّ علما يهوديّا وخاصّة بعد ترويج النّازيّين لهذه الفكرة، وكان يناهض النّسبويّة الثّقافيّة التي اتّجه إليها خصمه يونغ... ومع ذلك، فكلّ هذا لا يكفي. لأنّ على فرويد لكي يحظى بثقة العرب أن يعلن تملّصه التّامّ من اليهود واليهوديّة، أو أن يتنبّأ بمصير القضيّة الفلسطينيّة ويتبنّاها كما تبنّاها العرب بعد موته بعدّة عقود. يضع هؤلاء العرب فرويد على الميزان، ولكنّ الميزان هو ميزانهم الخاصّ، والمنظار منظارهم الخاصّ، ولا يريدون أن يروا شيئا من خارجه.
ويقول أحد المعلّقين المتحيّرين على الرسالة وقد نشرت في أحد منتديات الإنترنت: فرويد "كان يعتبر نفسه منعتقاً من الأديان جميعاً ولكنه في أماكن أخرى كان يعتزّ بجذوره اليهودية ، من وجهة نظر خاصة لم يفصح عنها . كيف سنوفّق بين القولين؟ لا أعلم وحده الله
من يعلم" .
وهنا أيضا تتواصل عمليّة القراءة بالمنظار الخاصّ جدّا: لا يعرف المعلّق كيف يمكن التّوفيق بين الإلحاد والاعتزاز بالجذور، لأنّه يُسقط على العالم عجز المسلمين الحاليّين عن التّمييز بين الانتماء إلى الإسلام باعتباره دينا، والانتماء إليه باعتباره حضارة أو ثقافة أو ذاكرة. فلا يوجد في العربيّة مقابل لمفهوم الانتماء الثّقافيّ لليهوديّة والنّصرانيّة، أي لما يعبّر عنه في الفرنسيّة بـjudéité وchrétienté، وهما لفظتان تعنيان طريقة الإنسان في أن يكون يهوديّا أو نصرانيّا بقطع النّظر عن عقيدته وعلاقتها بالمعتقد المكرّس. إنّها خانة فارغة في ثقافتنا ولغتنا لسبب بسيط هو أنّ الدّين الإسلاميّ لم يتعرّض إلى حركة الإصلاح التي تسمح للمسلم بأن يكون له انتماء ما إلى ثقافة الإسلام وأن يكون في الوقت نفسه ملحدا أو لاأدريّا، في حين أنّ هذه النّقلة حصلت في الدّيانتين الأخريين. المسلم عندنا يولد مسلما وإذا لم يعد مؤمنا بعقيدة الإسلام، فإنّ له وضعا واحدا يواصل الوصاة على الدّين فرضه، هو وضع المرتدّ الذي يجب أن يقتل. المسلم إمّا أن يكون مسلما أو مرتدّا أو في حكم المرتدّ الذي نجا من القتل نتيجة تعطيل حدود اللّه، ولا يمكن له أن يعتزّ بجذوره الإسلاميّة أو يبدي تعاطفا مع المسلمين وهو غير مؤمن بعقيدة الإسلام. و
لا مكان في الإسلام الحاليّ لمن يولد مسلما ويصبح ملحدا، ولكنّه يبقى على صلة ما بثقافة الإسلام وحضارته، ويظلّ قارئا لبعض نصوصه ومسائلا إيّاها.
وعندما أردت البحث عن ترجمة عربيّة لهذه الرّسالة، وأنا أعدّ دراسة مطوّلة عن تقبّل العرب للتّحليل النّفسيّ، عثرت على مقالات وتعليقات هالتني من فرط ما تنبني عليه من كره لمؤسّس التّحليل النّفسيّ، وجهل بأبسط ما كتب، وحقد على اليهود لمجرّد أنّهم يهود. فقد نسب الكتّاب والمعلّقون العرب لفرويد الدّعوة إلى انتهاك تحريم نكاح الأقارب، ونسبوا إليه التّآمر على العرب والرّغبة في إثبات حقّ اليهود في الاستيطان بمصر، نتيجة فرضيّته الجريئة عن الأصل المصريّ للنّبيّ موسى.
وأنا متأكّدة أن هذا الكمّ من تشويه فرويد ومن الجهل بحياته وكتاباته لا نجده في أيّ لغة وأيّ ثقافة من الثّقافات.
لم يغتفر الكثيرون لفرويد اكتشافه لأهمّيّة الدّفع الجنسيّ، وللحياة الجنسيّة بالمعنى الواسع للأطفال، ولم يغتفروا له اكتشافه للاشعور في علاقته بالكبت، أمّا نحن فلم نغتفر له كلّ هذا، رغم أنّنا لم نكد نترجمه ولم نكد نقرأه، ولم نغتفر له أمرا آخر على غاية البساطة هو أنّه يهوديّ الولادة والمنشأ. فنقدنا إيّاه يقع في دائرة ما قبل العلم وما قبل الأخلاق وما قبل كلّ شيء... فاليهوديّ مهما كان موقفه من الصّهيونيّة ومن دولة إسرائيل، ومهما كان دوره في بناء المعارف والقيم الكونيّة يظلّ غريب الوجه واليد واللّسان في عالم العرب المسلمين.
مرّة أخرى يثبت العرب أنّهم لا يرون أبعد من قيد أنملة، ولا ينظرون إلى العالم إلاّ باعتبارهم ضحايا مطلقين وجرحى نازفين، ويثبتون أنّهم أقدر على المحاكمة والإدانة منهم على التّفكير والاحتكام إلى القيم الإنسانيّة، وأقدر على البحث عن النّوايا منهم على تحليل الأفكار. ثقافة "فلان في الميزان" أو "تحت المجهر"، أو "أمام المنظار" أو "هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب"... ما زالت متواصلة، والميزان الذي وضعوا فيه فرويد ليس ميزان التّفكير في النّفس البشريّة، وليس ميزان المعرفة التي تهتمّ بالألم البشريّ، بل ميزان القضيّة الفلسطينيّة وقد تمّ مزجها بشيء من الإسلام وشيء من العروبة، وشيء من العنصريّة، وكثير من الجهل.

(المصدر: موقع الأوان تصفح يوم 24 جوان 2007)

عنوان الموقع: http://www.alawan.com/index.php?option=com_content&task=view&id=848&Itemid=10


هل ينقذ "بنك الجنوب" أمريكا اللاتينية؟


توفيق المديني
سوف تشهد قمة دول الماركوسور (السوق المشتركة لبلدان أمريكا الجنوبية) التي ستعقد في أسونسيون عاصمة الباراغواي الإعلان رسميا عن إنشاء بنك الجنوب، وهو عبارة عن مؤسسة مالية جديدة متعددة الأطراف، مخصصة للتنمية في أمريكا اللاتينية.
وكانت ست دول من أميركا اللاتينية( الأرجنتين بوليفيا، البرازيل الإكوادور،البراغواي، و فنزويلا ) أعلنت في مدينة كييتو يوم 3 مايو الماضي عن نيتها إنشاء بنك في الجنوب في شهر يونيو ، بهدف تمويل مشاريع للتنمية في المدى المنظور، و خلق صندوق مالي للإستقرار متخصص في استباق وامتصاص الأزمات النقدية على غرار الأزمة النقدية التي عصفت بالأرجنتين في عام 2001.
ويتساءل الخبراء، هل أن مثل هذه المشاريع التي تريد أن تشكل بديلا للشروط المفروضة من قبل المؤسستين الماليتين الدوليتين :البنك الدولي و صندوق النقد الدولي، قابلة للتحقق؟
إلى حد الآن ، لا يزال حجم رأس المال و العدد النهائي للمشاركين –هذه الدول الست التي طالبت دول جنوب القارة الأميركية بالالتحاق بها- غير معروف بشأن تأسيس بنك الجنوب هذا.و لا سيما أنه من غير المعروف أيضا ، إن كان سيتبع إنشاء هذا البنك النموذج الكلاسيكي للمؤسسات المالية، التي تحصل على ركيزة كمبيالة بدءا من تخصيصها الرأسمال اللازم من قبل الدول الأعضاء عبر الاقتراض من الأسواق المالية العالمية – أو أنه سيكتفي بإعادة توزيع الأسهم على أعضائه.
في الحالة الأخيرة،المشروع لن يذهب بعيدا ، حتى و إن كانت بعض الدول مثل البرازيل و فنزويلا ، تمتلكان احتياطات مالية مهمة من العملة الصعبة بفضل ارتفاع حجم صادراتها، و أسعار النفط.
أما في الحالة الأولى ، فإن هذا البنك سيحظى بصدقية قوية جدا تضاهي صدقية المؤسسات المالية الدولية القائمة ، لدى الأسواق المالية العالمية.الأمر يتعلق بنمط الحاكمية الذي سيتبعه البنك ، وبقدرته على إدارة المخاطر بشكل صحيح،و بالتالي على إنشاء مشاريع نوعية ، و الحصول على نسخ سجالات تجارية مالية محلية.
و الحال هذه، سيتعرض البنك، كما كل المقرضين ، لضعف أدوات الإدارة التي هي في حوزة المجموعات الإقليمية في جنوب القارة الأميركية ، التي أصبحت مع ذلك فواعلا لا غنى عنها بسبب اللامركزية المطبقة في معظم البلدان.
و أخيرا، فإن هذه المصداقية في مواجهة الأسواق تتعلق أيضا بتوافق الدول المشاركة،بينما هي كلها لا تتبع السياسات الاقتصادية عينها،فمن جهة هناك فنزويلا و بو ليفيا المناهضتان للليرالية، و من جهة أخرى هناك تشيلي و كولومبيا، المؤيدتان لاقتصاد السوق،لم تعلنا رسميا مشاركتهما في هذا البنك.
في الواقع ، يتوافق إنشاء هذا البنك مع مقتضيات التنمية ، إذ توجد حاجيات ضخمة للإستثمار في أميركا اللاتينية ، و لاسيما في مجال البنيات التحتية :لقد خلق العودة إلى النمو مضائق من الاختناقات .و هذا ما جعل كل من البرازيل و فنزويلا تشكلان في آن معا، احتياطات من العملة الصعبة.
بيد أنه يوجد مع ذلك ، مؤسسات إقليمية متخصصة في تمويل هذا النمط من الاستثمارات:كوربوريشن أندين للتمويل ،التي تضم 17 بلدا،و بنك ما بين الأميركيتين للتنمية. وهناك أيضا الصندوق الأميركي – اللاتيني للإحتياط، الذي يتدخل في مجال تثبيت الاستقرارالنقدي.
و يرى الخبراء أن تدخل هذه المؤسسات لم يكن في المستوى المطلوب، إما بسبب عدم تجهيزها كفاية برؤوس الأموال ، مثل - كوربوريشن أندين للتمويل التي ضاعفت مع ذلك حجم تدخلاتها، أو بسبب إجراءاتها البيروقراطية البطيئةجدا:فالبنك ما بين الأميركيتين للتنمية ، الذي يسطير عليه الأميركيون الشماليون في معظمه، لم يقرض سوى 6،4 مليار دولار في عام 2006،و هذا يساوي قطرة ماء أمام الحاجيات الملحة.
من هنا ، يمكن القول أن أي تدفق لرؤوس الأموال هو مرحب به. بيد أنه سيكون من المنطقي جدا تعزيز المؤسسات القائمة، التي تحظى بمصداقية مهمة لدى الأسواق العالمية .
في سؤال جامع يطرحه الخبراء، هل أن إنشاء بنك في الجنوب من قبل بلدان أميركا اللاتينية، للتحرر من التبعية للمؤسسات المالية الدولية ، يعتبرفكرة جيدة؟
المؤيدون لهذا المشروع ، يرون أنه توجد في الظروف الراهنة شروط تاريخية مشجعة يجب استغلالها: بفضل ارتفاع أسعار المواد الأولية و زيادة الطلب الصيني على المواد الأولية ، أصبحت الاحتياطات الكبيرة من هذه المواد التي تمتلكها بلدان أميركا اللاتينية مطلوبة جدا. و هذا الوضع سيستمر.و زد على ذلك يوجد طلب متزايد لهذه البلدان لدى المؤسسات المالية الدولية: هناك حاجيات حيوية للبنيات التحتية تم تحديدها، إضافة إلى أن الجواب للأزمات المالية يجب أن يتحسن ، كما أظهرت ذلك الإدارة السيئة لأزمة الأرجنتين في عام 2001.
أما لماذا لم تلب المؤسسات المالية الكلاسيكية : صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ، هذه المطالب،فلأسباب تكاد تكون متماثلة للمرحلة التي سبقت إنشاء المؤسسات الإقليمية في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، في كل من إفريقيا، و آسيا ، و أميركا الجنوبية.فهي تمتلك قابلية كبيرة للإستجابة، و سريعة بشكل جيد في الإحاطة بحاجيات بلدان معينة، و أكثر انتظارية لطلبات الدول الصغيرة- و لا سيما تلك الدول التي تجد صعوبة في الوصول إلى الأسواق المالية العالمية ، و أخيرا إنها تطور شعورا بالتضامن و بالتعاون بين البلدان .
على صعيد التدابير الاستباقية و معالجة الأزمات المالية ، على سبيل المثال أكدت الأزمات المالية الروسية، و البرازيلية، و الأرجنتينية، ما بين 1997 و 2001، بشكل واضح أن واقع التمويلات الدورية من قبل الأسواق نشرت العدوى ، و أن المعالجات بوساطة التقشف التي اقترحها صندوق النقد الدولي كانت لها تأثيرات ارتدادية على كل البلدان المجاورة للبلد"للمريض".
(المصدر: صحيفة "الخليج" الصادرة يوم 24 جوان 2007)


دفاعاً عن الخيار الديموقراطي


أكرم البني
«لا شيء يشجع على الديموقراطية»، عبارة صارت تتكرر كثيراً في الحوارات الدائرة اليوم حول الأوضاع العربية الراهنة وسبل معالجة أزماتها، ليس بسبب غياب نموذج ديموقراطي أو مثلاً يحتذي، وهو غياب قائم على أية حال، بل رداً على ما يجري في العراق وفلسطين أو ما يحتمل أن تذهب إليه الأوضاع في لبنان. فما يحصل حقيقة أن المناخ السياسي المحموم بالتوتر والعنف فرض نفسه بقوة على الخيار الديموقراطي، ودفع إلى مرتبة متأخرة مفردات الإصلاح والتغيير التي كانت تنظم اللغة السياسية لسنوات عديدة أمام تنامي الرغبة في الحفاظ على الأمن الاستقرار وتجنيب المنطقة مزيداً من الفوضى والقتل والاضطراب!
ولعل فشل المساعي الغربية في نشر الديموقراطية وانحسار مشروعها عن الشرق الأوسط الكبير أو الموسع، ربطاً بتفاقم الأوضاع في العراق وإخفاق إدارة البيت الأبيض في تسويق نموذج العراق الآمن والديموقراطي كنموذج للتغيير في المنطقة ثم ما ذهبت إليه التجربة الفلسطيـنية وبخاصة بعد أحداث غزة، وما يشهده لبنان من احتقانات خطيرة وخلافات تبدو عصية على الحل والتوافق، وإذا أضفنا تنامي التحسب الغربي والقلق من نتائج الانتخابات البرلمانية في غير بلد عربي، حيث حصدت التيارات الإسلامية حصة مهمة في البحرين والكويت واليمن، ناهيكم عن الغلة الوفيرة التي جنتها جماعة الأخوان المسلمين في مصر وفوز حركة حماس في فلسطين بغالبية مقاعد المجلس التشريعي! . نقف أمام أهم العوامل التي أفضت الى ظهور آراء ومواقف لدبلوماسيين وأكاديميين غربيين تجد في السياسة العاملة على نشر الديموقراطية دون التحسب من احتمالات الاضطراب والفوضى، عملاً مكلفاً ومضراً، الأمر الذي أدى إلى تثبيط الهمم وانكماش الحماسة الغربية القديمة للتغيير وبالمقابل تقدم تصريحات جديدة على لسان غير مسؤول أوروبي وأمريكي بضرورة تغليب «الاستقرار بديلاً للديموقراطية».
من جهة ثانية منحت هذه المستجدات العديد من الأنظمة فرصة غالية لم تضّيعها، وقد تخلصت من عبء الضغط المتواتر من أجل التغيير واحترام حقوق الإنسان، فسارعت إلى الطعن بأهلية مجتمعانا لتقبل الديموقراطية وإلى تشويه سمعة مشاريع الإصلاح السياسي واستعمال الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتضليل الجماهير ونشر ثقافة الخوف من أي تغيير أو تحول ما دام قد يستجر الفوضى والتفكك والاحتراب الداخلي. الأمر الذي مكنها من العودة لأساليبها الأمنية بأقل ردود أفعال وفرض سيطرة شبه مطلقة على حركة المجتمع وأنشطته المتنوعة، وتشديد القبضة على القوى السياسية المعارضة، لم يقتصر الأمر على ما يسمى المنظمات الإسلامية المتطرفة، التي هدر دمها منذ حين مع إعلان الحرب ضد الإرهاب، وإنما امتد أيضا ليطاول دعاة حقوق الإنسان وبعض رموز المعارضة الديموقراطية والعديد من المفكرين والمثقفين، وليشهد غير مجتمع «جرأة متناهية» ما كانت لتظهر لولا الظروف الجديدة في السخرية من أية انتقادات توجه إليها حول استبدادها وتسلطها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان!
وإذا وضعنا جانباً لغة المصالح والمنافع، وإذا نحينا الشامتين الذين بدأوا يفركون أياديهم فرحاً مما يعتبرونه خيانة غربية لمبادىء الحرية وتنصل من الوعود بالمساعدة على نصرة الديموقراطية وتنميتها في منطقتنا، ربما هو أمر مبرر أن يستنتج البعض بسطحية وبعفوية أنه لا شيء يشجع على الديموقراطية عندما يراها تقود أكثر من بلد إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار وتضعه على شفير حرب أهلية لن تبقي أو تذر، أو عندما يخلص إلى نتيجة ترفض الإصلاح السياسي، مقنعاً نفسه أن التطبيق الناجح للتعددية والحريات يحتاج إلى درجة من النضج السياسي والثقافي غير متوفرة في مجتمعاتنا، بينما السائد شعبياً هو إدراك سلبي للديموقراطية ومحاولة توظيفها لإثارة الفتن والانقسامات واستحضار الخصوصيات الفئوية والحزبية وأساليب العنف، وتالياً إستجرار الاضطراب وظواهر التشرذم والتذرر!.
ونتساءل: هل فكر أصحاب هذا الرأي للحظة كم سيكون مكلفاً لنا وللأجيال القادمة الحفاظ على الركود والاستنقاع القائم، أو كيف يتوفر النضج السياسي المزعوم، إذا كان مفقوداً حقاً، ما دام ثمة استمرار في إقصاء البشر وعزلهم عن إدارة شؤونهم العامة، أو كيف تكسب الناس الأهلية المنشودة للتمتع بحقوقها وحرياتها والدفاع عنهم ما دامت هناك رغبة في إبقاء المجتمع معزولاً عن التجربة السياسية والتدرب على المشاركة واحترام الآخر المختلف.
إذا كانت بعض الآراء تكتفي برصد التحول الديموقراطي عبر تناول نتائجه السطحية والمباشرة لمعايرة جدواه فإن المطلوب أبعد من ذلك وأعمق، وهو ربط هذه المسألة مع حقيقة ما تعانيه مجتمعاتنا من أمراض وأزمات وتحديد السبيل الأنجع لمعالجتها. فقضية الديموقراطية لا يصح اختزالها بجديد الموقف الغربي منها، وهي لا تتعلق فقط بمدى نضج المجتمع لتقبلها، بل بموازين القوى القائمة على الأرض وبقدرة الإصلاحيين ودعاة الحرية والتعددية على إنتاج فعل مؤثر وخلق الشروط التحتية لضمان نجاحها واستقرارها، والأهم هو الإيمان بأن الإصلاح السياسي وإطلاق دور البشر في الحياة هو ضرورة موضوعية لا بد منها لمواجهة ما نعانيه من أزمات، وأن التراجع عنها يؤدي إلى ما هو أكثر سوءاً وأشد وطأة.
أفلم تقل أحوالنا الراهنة التي تثير الشفقة كلمة الحسم في هذه المسألة؟! أولا تكفينا دورة الآلام التي عشناها طيلة عقود تحت سيف الاستبداد والقهر كي نقتنع بأن تغيير هذا الواقع بات سبيلاً إجبارية لا غنى عنها؟! وأيضاً ألا يكفينا هذا الفشل الذريع في تحقيق الأهداف التي وعدت النخب الحاكمة الناس بها، وكيف صارت الرموز الوطنية والشعارات القومية غطاءاً لمراتع الفساد والامتيازات الفئوية ولتشديد القمع والاضطهاد ضد الشرفاء والقوى الحية؟!.
ويبقى أن ما تعانيه المجتمعات الآيلة للتحول الديموقراطي اليوم من صعوبات وإرباكات هو لحظة عابرة صوب أمل ووعد بمجتمع صحي معافى. ومثل هذه الصعوبات، هي صعوبات مفسرة واختبارات مفهومة لمجتمعات حطمها القمع وجعلها تدمن السلبية والاتكال، فالسلطات وسياساتها الاقصائية هي المسؤول الرئيس عما نعيشه الآن، ومظاهر الانحطاط وأساليب العنف والتدهور الأخلاقي هي منعكس طبيعي للقهر والتمييز وثقافتهما المدمرة.
ثمة كارثة حقيقية تنتظرمجتمعاتنا في حال أحجمت عن الانتقال من عالم الاستبداد إلى الديموقراطية، وليس أمراً بعيد الحصول أن يفضي تأجيل هذا الاستحقاق إلى انفجار الأزمات المتراكمة بصورة مريعة وأن تسفر حالة الممانعة عن التغيير إلى انهيارات واسعة وتفكك الدولة وتشرذمها. وفي المقابل هناك حقيقة يجب التمسك بها بالأسنان والأظافر تقول إن الانفتاح والإصلاح السياسي هو الذي يعجل في إنضاج المجتمعات وبناها الأساسية وهو ما يرتقي بدرجة تقبلها للحريات والتعددية، ليصح القول أن نضج الناس وتوفر شروط أهليتهم للديموقراطية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال ممارسة الديموقراطية ذاتها. مثلما يصح القول أيضاً إن انتصار الخيار الديموقراطي ليس أمراً سهلاً في مجتمعنا، بل يقف على نتائج معركة فكرية وسياسية لا بد أن تخاض بكل جدية وحزم، ويخضع في تقدمه وتراجعه لما تتمتع به القوى المتنطحة لقيادة التغيير من وعي وخبرة ودقة في الخطاب السياسي والممارسة. فالديموقراطية لا تولد من تلقاء نفسها أو بصورة عفوية، ولا تفرضها حتمية النضج الاجتماعي على أهميته، بل هي بذرة قائمة بذاتها لا تنتش أو تترعرع إلا بقدر ما ترعاها القوى المؤمنة بها، وتتمكن من تفهم طبيعة الصعوبات والمعوقات التي تعترضها، وتعمل على إزالتها. والديموقراطية لن تصبح أمراً واقعاً إلا بقدر النجاح في جعل المجتمع يعمل من أجلها، ويبدى أعلى الاستعداد للتضحية على أجل تنميتها وحمايتها، ما يضع في المقام الأول هدف تحويل شعار التغيير الديموقراطي الى مطلب شعبي قوي وإقناع الناس بضرورته كمخرج وحيد من الأزمات التي نعانيها.
وبعد، فلنسأل الشامتين، ألم يكن الخيار الديموقراطي حاجة عتيقة ودواء قديم قدم ما نعانيه من أمراض فساد وتخلف وقهر، أولم يكن مطلباً مطروحاً قبل أن يطرح الغرب مشاريعه عن التنمية السياسية والإصلاح، وإنه كان عند الكثيرين هدفاً وطنياً في حد ذاته لتعزيز قدرات المجتمع على مواجهة التحديات والمخاطر الخارجية. ثم ما دامت السياسات الغربية قد بدأت تتنصل من دعم الديموقراطية وافتضحت قوة مصالحها وازدواجية معاييرها، وأنها تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار تعود إلى سياستها القديمة في دعم الأنظمة ضد شعوبها، نسأل عن دور أصحاب فكرة النضال الديموقراطي بدلالة الداخل، ألا تعتبر اللحظة الراهنة، هي اللحظة المناسبة أو لنقل المحك الحقيقي كي يثبتوا مصداقيتهم في مقارعة الاستبداد وتقديم التضحيات لنصرة الديموقراطية وحقوق الإنسان!
(المصدر: صحيفة "الحياة" (يومية – لندن) الصادرة يوم 24 جوان 2007)


ولادة النهضة في فكر مالك بن نبي:

الأخلاق والجمال والمنطق العملي وتقنيات الانتاج

عمر مسقاوي (*)

أطلت أوروبا في مسار القرن التاسع عشر وفلسفته بمفهومين أساسيين هما مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة. فمنذ عام 1718 بدأت فرنسا تدخل كلمة Culture من خارج معناها اللغوي كتوصيف مضاف الى شيء آخر كالأدب والفن وليس كمضمون مستقل. ثم استقل مع التطور كمفهوم Conception ليدل على التأهيل والتربية والتأديب مع نشوء مصطلح آخر هو Renaissance استعمل مع بداية القرن التاسع عشر حين ورد من ايطاليا كمصطلح عمّ أوروبا ليسير الى حركة تجديد واسعة شملت الفنون والعلوم إحياءً لتراث الاغريق والرومان.

مع هذه التطورات في تنظيم تطور أوروبا انتقل مفهوم الثقافة الى اطار أكثر تخصصاً وتجريداً في بناء العلوم الاجتماعية والنفسية ونظرية التطور مع Taylor البريطاني وبدأ مصطلح Renaissance يشير الى بعث وقيامة جديدة استقرت مع آلية عصر الأنوار لتمسك بمفهوم التقدم انطلاقاً من المعطيات المضمرة للثقافة الغربية التي ارتبطت بالأرض والنزعة الكمية مع أوغست كمت والمادية الوثنية.

البداية

هذه الخلفية الثقافية لعصر الحداثة والاستعمار أطل عليها وعي مالك بن نبي في الجزائر وتحديداً عام 1925 حين بدأت مكونات رؤيته للمشكلة تنمو في مدينته قسطنطينة مع نشوء حركة الاصلاح بقيادة ابن باديس من ناحية ومن ناحية أخرى تكوينه في مناخ مدرسة قسطنطينة حيث انتقل اليها منذ العام 1920 ليتابع تحصيله العلمي. في هذه المرحلة أتيح للطالب بن نبي أن يطلع على حركة العصر الذي سمي العصر الجميل بعد الحرب العالمية الأولى، لذلك كان يتابع الصحف الفرنسية وخصوصاً جريدة humanite كما يطالع أنباء الحركة التجديدية في مصر عبر جريدة «المنار» والسيد رشيد رضا حين غدت مرجعاً لحركة الاصلاح بقيادة بن باديس. كانت هذه صورة التحولات التي ترابطت من خلالها فاعلية أوروبا في العالم عبر الاستعمار وهكذا غدا مفهوم الثقافة هو الصورة والتعبير عن تلك الولادة الجديدة في أوروبا التي تحققت فعلاً والتي اتخذت مصطلح Renaissance فارتبط بعث أوروبا من جديد كنموذج في ذهن المثقفين العرب والمسلمين وغدا هذا النموذج المعيار في التحدي المزدوج نحو الانفتاح الكلي على النموذج خارج التراث العربي الاسلامي كحقيقة اجتماعية قائمة أو الانكفاء الكلي نحو الذاكرة التاريخية لنموذج الحضارة الاسلامية.

شروط النهضة

كان كتاب شروط النهضة الذي صدر عام 1949 يأتي ثانياً بعد كتابه «الظاهرة القرآنية» الذي كان الجواب على التحدي الأول، إذ لاحظ بن نبي أن الطلاب الذين جاءوا الى أوروبا وخصوصاً فرنسا يتمثلون أفكار المستشرقين ودراساتهم، خصوصاً في ما يتعلق بعقائدهم بسرعة لافتة. فما إن وضع مرغليون نظريته في نفي وجود الشعر الجاهلي وأنه من صنع العهد الاسلامي من أجل الادعاء باعجاز القرآن للعرب، عام 1925، حتى أصدر طه حسين كتابه «الشعر الجاهلي» عام 1926. لذا كان كتاب «الظاهرة القرآنية» أول دراسة قامت بإثبات انفصال الوحي وآيات القرآن الكريم عن الذات المحمدية وقد طبق في هذا كله المنهج العقلاني الغربي. وحين صدر كتاب «الظاهرة القرآنية» عام 1946 اعتبره بعض المحللين المحايدين أول دراسة عقلانية يقوم بها مثقف من البلاد المستعمرة. وحين كانت أفكار ماركس ونقده للرأسمالية شائعة على أثر الحرب العالمية الثانية وقد اعتبرت منطلق نقد لحركة عصر الأنوار المادية اعتبر البعض أن كتاب «الظاهرة القرآنية» هو منطلق نقد للعقلانية المادية التي حاولت تعسفاً تفسير ظاهرة الوحي القرآني في اطار دراسات علم النفس وليس دراسات الظاهر في مفهومها الغيبي.

لذا كان كتاب «شروط النهضة» الذي صدر عام 1949 خلاصة انعكاس هذا الواقع على رؤية بن نبي، ويبدو لنا ذلك واضحاً في عنوان الكتاب الأساسي «شروط النهضة الجزائرية». فهذا العنوان في حد ذاته يطرح المنطلقات الرئيسة لسلسلة كتبه جميعاً «مشكلات الحضارة». فبن نبي انطلق من معيار عملي يختلف أساساً عن كل مقاربات المفكرين والكتاب الذين تكلموا على النهضة في هذا الاتجاه أو ذاك.

فنسبة شروط النهضة الى الجزائر ليست عملية تركيبية تضيف مظاهر العصر الحديث الى مظاهر الحياة الجزائرية في ظل الاستعمار، بل هو عنوان تحليلي شرطي كما يتضح من فصول الكتاب. فالجزائر هي مساحة التحليل التي انتهت الى مفهوم القابلية للاستعمار كواقع نفسي يحدد مرحلة معينة من واقع الخلفية التي رسختها الحضارة الاسلامية في عمق الجزائر، وهي مرحلة الأفول والانسحاب من التاريخ. فالقابلية للاستعمار هي في النهاية قضية تتعلق بالافكار في مرحلة الشلل الفكري يعبر عنه واقع الجزائر. لكن الجزائر ليست سوى نموذج من العالم الاسلامي كله الذي يشكل مجال دراسة لتماثل الإعراض في عالم الأفكار.

من هنا بدأت الشروط التي وضعها بن نبي تنطلق من استراتيجية أساسية مماثلة لاستراتيجية ولادة أوروبا من جديد في اطار مفهوم Renaissance الاوروبي، أي اعادة النظر في التراث القديم بعد تصفيته من سائر مؤثرات الحضارة الاسلامية في لحظة أفولها بعد سقوط الأندلس كما يقول بن نبي.

وهكذا انتهج بن نبي آلية المسار نفسه انطلاقاً من التراث الاسلامي من دون الدخول في تفاصيله. فتحدث عن الشروط السابقة للحمل من أجل ولادة جديدة. لذا تختلف مرحلتنا عن مرحلة أوروبا لأن المصطلح الأوروبي تحدث عن الوليد الجديد في ما يسمى عصر النهضة في ايطاليا. لذا عمد بن نبي الى تحديد جديد لمفهوم الولادة من جديد Renaissance. هذه الولادة الجديدة لا بد من أن تخرج من رحم «القابلية للاستعمار» حين تصفي سلبيات الأفكار السائدة، وهذه تحتاج الى لحظة مخاض تاريخية مملوءة بالبواعث كتلك اللحظة التي نشأت فيها ولادة الاسلام عبر الوحي في مكة. فتعبير الولادة من جديد هو ترجمة تعبير Renaissance والعنوان باللغة الفرنسية للكتاب هو الأكثر وفاء لمنطلقات بن نبي. فكلمة النهضة أو الولادة naissance تقود الذهن الى النموذج الغربي، وهذا ما أشار اليه المفكر المغربي الجابري حين قال إن مصطلح Renaissance يدل على ولادة فعلية هي الغرب بكل معناه، بينما فكرة النهضة في المشروع العربي والاسلامي اتجهت الى المستقبل خروجاً من الواقع العام. وهذا يدل على أن وعي العرب في رؤيتهم لنهضة أوروبا يقوم أساساً على الاحساس الفارق بين واقع التخلف وواقع نهضة أوروبا، لذا فهم يفكرون بالنهضة التي يرون نماذجها.

الثقافة في اطار الولادة الجديدة

لقد شرع بن نبي يعطي في كتابه «شروط النهضة» صورة الاستعمار في الجزائر كمعطل لكل ارتباط بين دور الانسان الجزائري والبيئة من حوله. لذا لا بد من أن تنطلق الولادة من جديد خارج الدائرة التي رسمها الاستعمار، أي خارج مفهوم القابلية للاستعمار. وهكذا طرح المشكلة في اطارها الحضاري الذي يتصل بمستقبل الانسانية على هذا الكوكب.

فمن العودة الى العهد الأول نرى أن الاطراد التاريخي لفاعلية الفكرة الاسلامية انطلق من عاملين: الفكرة الاسلامية التي هي أصل الاطراء، والمسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة.

فنشوء الدورة الحضارية يرتبط صعوداً وهبوطاً بالفرد الذي يمثل فكرة الاسلام باعتباره سندها المحسوس. ففكرة الاسلام كوحي مُنزل تمثل الأصالة العينية والحقيقة المطلقة. وهذا من عند الله ويبقى الذي من عند أنفسكم بمعنى أن محور الحضارة هو الانسان المسلم الذي هو سند الفكرة المحسوس في مسيرة التاريخ.

وبقدر مسوغات الفكرة في بناء الارادة وفاعلية حضورها يكتب التاريخ مراحل صعود الحضارة وهبوطها.

من هنا يأتي تداول الأيام ومن هنا يبدأ دور الانسان في بناء عالم محيط حوله تتحدد في اطاره قيم الأخلاق ومدى ارتباطها بالمثل والجمال ومدى التعبير به طبقاً لهذه المثل والفاعلية ومدى ارتباطها بالمنطق العملي في تفعيل الوسائل ذات الارتباط الوثيق بالقيم الاخلاقية والجمالية عبر التاريخ.

فالعناصر الأربعة: المبدأ الاخلاقي والمبدأ الجمالي والمنطق العملي ثم الجانب التقني في الانتاج هي العناصر التي تتكون منها ثقافة المجتمع حينما تصبح تاريخاً. فالثقافة هي الأساس التربوي الذي يحدد معيار الصعود والهبوط بقدر تضامن هذه العناصر في بيئة الفرد، ذلك السند الأساسي لمسار الحضارة في اتصاله بالثروة عبر الزمن التاريخي الذي يحدد مراحل الحضارة. فالحضارة هي القدر النهائي للثقافة التاريخية وهي مركب الصعود الى الحضارة في مداها العالمي ومركب الهبوط في سحيق التخلف.

إن هذا المنهج، يقول بن نبي، يرتبط بمفهوم كوني كسنّة من سنن الله الأزلية. من هنا فالاقتباس من أوروبا يتطلب من القابلية للاستعمار التي هي الوجه الآخر لصورة الاستعمار أن تنظر (هذه القابلية) الى الظواهر الغربية الأوروبية على أنها مسألة نسبية لا تعبر عن الحقيقة المطلقة ومن خلال ذلك يستطيع العالم العربي والاسلامي أن يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية. وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع هذا العالم أعظم (كما فعلت اليابان).

من هنا يتضح لنا أن الفكرة ليست مصدراً للثقافة من حيث هي فكرة عينية، بل هي الفاعلية المحيطة بها باعتبارها ذات علاقة بوظيفة الثقافة التي هي مجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة في المجتمع. وهو مستوى تتغير فيه الأفكار بطريقتين:

أ – الطريقة الأولى في ظل ارتفاع مستوى الحضارة، إذ كان الأوروبي ينظر الى التقدم العلمي كميزة يمتاز بها عقله والى الحضارة على أنها فطرته والى الاستعمار على أنه امتداد لحضارته خارج أوروبا. وكانت هذه الأشياء تحقق الاجماع في الداخل في حدود أوروبا والاعجاب في الخارج خارج حدود أوروبا.

ب – الطريقة الثانية في مرحلة هبوط الحضارة. فعندما يهبط مستوى الحضارة تنقطع الصلة بالأفكار المؤسسة للوسط الاجتماعي والتي جاءت من منابع خلفية وعقلانية صدرت عنها أساساً. وهكذا تكسب هذه الأفكار وجوداً صناعياً غير تاريخي. وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي كما تفقد قدرتها على إبداع الأشياء. بل إن الشيء نفسه يفقد أيضاً مقدرته على انتاج الأفكار. فقد ارتبطت تفاحة نيوتن بمرحلة نفسانية وعقلية أدت الى اكتشاف الجاذبية هي ثقافة الغرب في بداية حيويته التي تطرح السؤال دائماً. لكن لو سقطت أمام جده لأكلها لأن المرحلة لم تكن قد وضعت الأفكار والأشياء في مستوى الشروط النفسية لعالم الأفكار والأشياء في إطار عالم الأفكار.

(*) محامٍ، نائب ووزير سابق، نائب رئيس المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى في لبنان

(المصدر: ملحق "تراث" بصحيفة "الحياة" (يومية – لندن) الصادرة يوم 23 جوان 2007)


بن نبي في «مجالس دمشق»: زبدة أفكاره لشبابها المتنوّر

قصي الحسين (*)

«إن يكن للمصادفات شأن في حياة الكتب، فهذا الكتاب ابن المصادفة» (مالك بن نبي: مجالس دمشق، دار الفكر، دمشق – 2006 مراجعة وتدقيق الوزير اللبناني السابق عمر مسقاوي).

بهذه الكلمات البسيطة قدم مالك بن نبي (1905 – 1973) لكتابه «مجالس دمشق»، وهو الأخير في سلسلة مشكلات الحضارة التي بدأها بباريس ثم تتابعت حلقاتها في مصر فالجزائر، والتي سبق ان صدر منها زهاء سبعة عشر كتاباً مثل: «بين الرشاد والتيه» و «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة» و «الفكرة الافريقية - الآسيوية» و «فكرة كمنولث إسلامي» و «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» و «وجهة العالم الإسلامي».

وقد أمعن مالك بن نبي في جميع كتبه الثمانية عشر التي أصدرتها له دار الفكر في دمشق، في الحفر حول مشكلات التخلف المزمنة، متجاوزاً الظواهر الطافية على السطوح، الى الجذور المتغلغلة في الأعماق، وباحثاً عن السنن والقواعد والقوانين التي تكفل للشعوب ان تتحول عن الكلالة والعجز الى القدرة والفاعلية. وبذلك يكون مالك بن نبي قد تجاوز مشكلة الاستعمار ليعالج مشكلة «القابلية للاستعمار»، ومشكلة التكديس الى البناء والحق الى الواجب، وعالم الأشياء والأشخاص الى عالم الأفكار، مؤكداً (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (سورة الرعد، الآية 11)، وأن مفاتيح الحل عند الذات لا عند الآخر.

زار مالك بن نبي دمشق عام 1972، كما يظهر من مقدمة الكتاب. وذلك بعد الحج وبعد رحلة الى السعودية استغرقت شهراً ونصفاً. وعندما وصل الى بيروت في طريق العودة الى الجزائر، وهو بصحبة كل من زوجته وابنته «رحمة» صغرى بناته، راودته نفسه ان يطلع «رحمة» على بعض معالم الحضارة الإسلامية بدمشق، فقرر السفر إليها ليقضي فيها يومين أو ثلاثة. وإذا به يقضي في مجالسها زهاء ثلاثة أشهر، قضاها في حوار مستمر مع شباب دمشق المسلم، الذين سارعوا الى تسجيل مجالسه على مسجلاتهم. ثم كانوا ينقلونها كتابة ثم يبيضونها، «حتى صيروها هذا الكتاب» كما يقول بن نبي نفسه، والذي أرّخ للمقدمة التي وضعها لهذه المجالس في بيروت 13/8/1972.

ويبدو لنا من المقدمة الثانية للكتاب والتي كتبها الوزير اللبناني السابق الأستاذ عمر مسقاوي ان كتاب «مجالس دمشق» كان قد ورد في قائمة الكتب التي كتبها مالك بن نبي والتي أصدرها بناء على وصية بن نبي نفسه. غير ان الأستاذ عمر مسقاوي ذكر ان مخطوط «مجالس دمشق» لم يصل الى يده إذ كان بن نبي جمعه وهو في دمشق ونقحه، ثم تعاقد مع دار الشروق لكي تنشره كتاباً وهذا ما يفسر سر توقيعه في بيروت لا في دمشق. وقد ضم الكتاب في صدر صفحاته الأولى صور الوثائق التي خولت مسقاوي الإشراف والتدقيق والنشر لكتاب «مجالس دمشق»، كما لسائر كتب بن نبي السابقة.

تضم «مجالس دمشق» ست محاضرات في مشكلات الحضارة المعاصرة ودور المسلمين فيها. وقد تحدث بن نبي في المحاضرة الأولى، والتي كانت عبارة عن لقاء مفتوح مع الأخوات في مسجد صلاح الدين في 16 نيسان (ابريل) 1972م، عن مفهومي (القابلية للاستعمار والحضارة – الإسلام). وفي هذه المحاضرة اشار مالك بن نبي الى ان سبب تأخر المجتمع الشرقي هو تعطيل الفكر لا وجود الاستعمار. وسنعود لمناقشة هذه المسألة، حين ننتهي من عرض موضوعات الكتاب، نظراً لجديد هذه الفكرة وجديتها وحداثتها معاً في آن. اما في المحاضرة الثانية التي ألقيت في الجامعة السورية بدعوة من كلية الشريعة في آذار (مارس) 1972، فقد كانت بعنوان: «الثقافة والأزمة الثقافية»، والتي بناها على فرضيتين:

1- سوء إدراك مفهوم الثقافة، و2- خلل التطبيق. فبين وضع الثقافة في المجتمع المسلم، وأثر المجتمع في ثقافة الفرد، بما هي ثقافة حياة لا ثقافة موت. وفي المحاضرة الثالثة التي ألقاها في مسجد المرابط 1972، تحدث عن الحقوق والواجبات وتلتها مناقشة وحوار مع الحاضرات من السيدات. وبيّن مالك بن نبي أثر فهم المجتمع لها في نمائه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وشرح لهن ان المجتمع الآخذ في الارتقاء، يقدم الواجبات على الحقوق.

في المحاضرة الرابعة: «المرأة والرجل أمام واجبات واحدة» والتي ألقاها في مسجد المرابط بدمشق 1972، تحدث بن نبي عن أوضاع المجتمع المسلم ومتطلبات النهوض به وإنقاذه. اما في المحاضرة الخامسة وهي بعنوان: دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين والتي ألقيت في رابطة الحقوقيين في آذار 1972، وفي المحاضرة السادسة: «رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين» فقد مهّد بن نبي بالحديث عن اهمية احداث القرن المشار إليه، وما يتصف به من التغيرات العميقة، وما حدث فيه من مخاطر مزقت الشباب وأدت الى إفلاس الحضارة الحالية والأديان القائمة وانهيار الأخلاق والقداسات وافتقاد الروحانيات. ومن هنا يبرز واجب المسلم الذي يحمل رسالة إنقاذ نفسه وإنقاذ العالم من الضياع. كذلك فرّق اخيراً بين الدين والرسالة. وفي سبيل الرسالة نفسها طالب بن نبي الرجل المسلم بأن يعرف نفسه، ويعرف الآخرين، وأن يُعرّفها للآخرين. وأن يرتفع الى مستوى الحضارة، التي هي فوق مستوى الحضارة الحالية. أي الى مستوى ثقافة الحياة التي هي أعلى بكثير من ثقافة الحياة التي تنتجها الحضارة الغربية، كما هي بالتالي نقيض ثقافة الموت أو ثقافة فقه الموت التي تنتجها الحضارة الأخرى من خلال ولاية الفقيه، أو من خلال إمارة الشخصية النمطية التي عممها بن لادن في 11 أيلول (ديسمبر) 2001، وكأنه كان ينبه الى الظاهرة المثيرة التي ستظهر في ما بعد في مطلع الألفية الثالثة والتي تفرزها المدن الإسلامية بقوة في شوارعها أو ضواحيها الفقيرة أو في الأرياف التي هي أكثر فقراً أو التي تمثل مظاهر عدة للعنف الحضري مثل السرقة بالإكراه والمخدرات والاغتصاب والدعارة، فضلاً عن الهجرة غير المأمونة التي يسميها المغاربة «الحريق» لأن المهاجرين غير الشرعيين على متن القوارب الصغيرة يحرقون انفسهم ويحرقون المسافات. إذ لا بد لهذه الظاهرة المثيرة والتي تتجسد في العنف الحضري ان تستغل على يد جلاوزة الإنسانية لجعلها تنخرط في ما يُعرف بفقه الموت أي العمليات الانتحارية.

وفي رأينا ان الأستاذ عمر مسقاوي الذي وقف أكثر من أي باحث آخر على تراث بن نبي الفكري والديني، وفق بالوصول الى النتائج التالية: إن هناك محنة تخلف نمر بها، وأن ما أورثنا إياه هذا التخلف هو من صنع ايدينا، لأنه حصاد أمراض اجتماعية. فكثرة التعبد والدعاء لا تغني عن القيام بالواجبات، لمواجهة هذه الأمراض. وهذه مسؤوليات تتطلب رؤية في مساحة العالم كله ودورنا فيه. ومعطيات العمل الإنقاذي إنما يرتكز على امن المجتمع، وهذا يتطلب انخراط ابنائه في انتظام ثقافي وحضاري معاً على حد سواء. كذلك فإن رؤيتنا يجب ان تكون في حجم العالم كله، وعدم الركون مطلقاً الى ذاكرة متعالية عن مشكلات الواقع، لأن نهر التاريخ وصل الى مصبه في مسيرة الثلث الأخير من القرن. أما صلاحية الإسلام لمستقبل العالم، فهي بمقدار ما تقدم للعالم من حضور وإسهام، وهو امر مستقل عن صحة الإسلام حقيقة إلهية، غير انه يفقد صلاحيته في العالم إذا أغفل المسلمون طريقة استعماله اداة حضارة وعمل وبنيان على مستوى العالم أجمع.

القابلية للاستعمار

ويحذّر مالك بن نبي في «مجالس دمشق» من أن نعمل من دون ان ندري – على عودة الاستعمار إلينا مجدداً بعدما أضعنا قرناً في معالجة هذا المرض/ الاستعمار. وفي رأيه ان الاستعمار لم يكن من خارج استعدادنا لاستقباله. وهو بعد ان غادر أوطاننا، نشعر بأن الأوضاع الاجتماعية أو الخلقية أو الثقافية أو الدينية أو الإنسانية لم تتغير بطريقة جوهرية، بحيث تمنع عودته إلينا، بل تمهّد له في بلادنا، كما حدث في العراق وفي لبنان وربما في أوطان أخرى، كما نراه يستشرف ذلك في آفاق رؤيته لمدى مساهمتنا في القابلية للاستعمار.

فالمجتمع المغولي في القرن السابع للهجرة دام سبعين سنة، وانتهى دوره في التاريخ، لأنه ليس بمجتمع متحضر، لقد دمر الطاغية العالم، خصوصاً العالم الإسلامي، غير انه تقوّض حتى ابتلعته المجتمعات المتحضرة. لأن مصير الشعوب يرتبط بالمجتمع المتحضر لا بالمجتمع البدائي المغولي أو الصفوي. ويرى مالك بن نبي ان المسلمين معرضون للتلف إذا لم يدخلوا المعركة الاجتماعية الحضارية، بسبب تفجر وسطهم الاجتماعي ومحيطهم الاجتماعي العام الطبيعي، فمجتمعهم نفسه سيتمرد عليهم لاحقاً، بسبب القيادة الدينية التي لا تعمل على رفع المسلم الى مستوى الحضارة بحيث يسلك جوهر الحضارة.

(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية

(المصدر: ملحق "تراث" بصحيفة "الحياة" (يومية – لندن) الصادرة يوم 23 جوان 2007)

</div>


Nuk ka komente: